يشكّل موضوع تعامل الولايات المتحدة مع صعود الصين كقوّة عظمى مسألة إشكالية بالنسبة لصنّاع القرار في الولايات المتحدة

في صيف العام 2022 عقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره العشرين، والذي جدّد من خلاله للرئيس شي جين بينغ لولاية رئاسية ثالثة مخالفاً العرف الذي رسّخه منذ ثلاثة عقود. وقد جاء هذا التجديد في إطار التأكيد على سياسة الصين الهادفة إلى التحوّل إلى قوّة دولية فاعلة، في وقت تشير فيه المؤشرات الاقتصادية إلى قرب تبوّئها الريادة الاقتصادية العالمية مكان الولايات المتحدة الأميركية، مع ما يستتبعه ذلك من تحدّيات بالنسبة لواشنطن التي لا تزال تسعى لإبقاء هيمنتها الأحادية على العالم. هنا تتراوح آراء المفكرين الجيوسياسيين الأميركيين بين داعٍ للتعاون البنّاء مع الصين، أو داعٍ لاحتوائها وعزلها.

حالة الاقتصاد الصيني

الجدير ذكره أنّ الاقتصاد الصيني أثبت قوّته خلال السنوات الخمس الماضية على الرّغم من محاولات الحصار الأميركية، وتحديات وباء كورونا، والتحديات الداخلية التي تواجه هذا الاقتصاد.

ففي ما يتعلق بنموّ الناتج المحلّي القائم فلقد حقق الاقتصاد الصيني أرقاما مذهلة سجّلت معدلاً تراوح حول 2.3 بالمئة في العام 2020 وارتفع إلى 6.7 بالمئة في العام 2021 و8 بالمئة في العام 2022 وهو ما لم تحقّقه اقتصادات الدول الكبرى الأخرى في نفس الفترة.

وقد ترافق ذلك مع سعي القيادة الصينية إلى تحويل الاقتصاد من اقتصاد يحرّكه الاستثمار إلى اقتصاد يحرّكه الاستهلاك، فسجّل الاستهلاك نحو 57 بالمئة من الناتج المحلي القائم للبلاد في العام 2019 بالمقارنة مع 48 بالمئة في العام 2010، أي أنّ الارتفاع كان بنسبة عشرة بالمئة خلال عشر سنوات. وقد خطت الصين مسافة كبيرة باتجاه تقنيّات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي وانترنيت الجيل الخامس وتطوير السيارات الكهربائية والانتقال إلى مصادر الطاقة النظيفة، خصوصاً أنّ القيادة الصينية تسعى إلى تعزيز دور التكنولوجيا والابتكار كمحرّكين أساسيين لنموّ الاقتصاد وجعل الصين رائدة فيهما.

وعلى صعيد التجارة الدولية فإنّ الصين عزّزت موقعها كلاعب رئيسي على الرغم من التوتر في العلاقات التجارية خصوصاً مع الولايات المتحدة. وعلى الرغم من وباء كورونا فإنّ صادرات الصين ارتفعت في العام 2020 بنسبة 3.6 بالمئة فيما ارتفع الاستيراد بنسبة 1.2 بالمئة. وتعمل الصين على تعزيز علاقاتها التجارية مع الدول الأخرى وفي الوقت نفسه تعزيز التجارة الحرة.

وتواجه القيادة الصينية تحدّياً رئيسياً يتمثّل بزيادة عدم المساواة في الدخل. فبينما شهدت قطاعات واسعة من الشعب الصيني ارتفاعاً كبيراً في دخلها إلّا أنّ الفجوة اتسعت بين الفقراء والأغنياء، وهو ما تعهّد الرئيس شي جين بينغ بمعالجته في ولايته الثالثة عبر زيادة الحدّ الأدنى للأجور وتوسيع برامج الرعاية الاجتماعية.

موقف المفكّرين الجيوسياسيين الأميركيين

هذا أدى إلى بروز وجهات نظر مختلفة بين المفكّرين الجيوسياسيين المؤثّرين على القرار في الولايات المتحدة. ويقول روبرت كاغان، الباحث في معهد بروكينغز ومؤلّف كتاب "عودة الغابة: أميركا وعالمنا المنهك" بأنّ على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة "لمستقبل تمارس فيه الصين مزيدًا من السيطرة على النظام العالمي، وتؤدّي دورًا مهيمنًا بشكل متزايد خصوصاً في تشكيل القواعد والمؤسسات التي تحكم النظام الدولي."

ويرى البعض أنّ صعود الصين يمثل تهديدًا للهيمنة الأميركية العالمية ويعتقدون بأنّ الولايات المتحدة يجب أن تتخذ نهجًا أكثر تصادمية تجاه الصين، لأنّها تشكّل خصماً استراتيجياً للولايات المتحدة، ويوصون بأنّ على واشنطن اتخاذ خطوات جذرية لمواجهة القوّة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية المتنامية للصين. ويرى مايكل بيلسبري، الباحث في معهد هدسون ومؤلّف كتاب "ماراثون المئة عام: استراتيجية الصين السرّية لاستبدال أميركا كقوّة عظمى عالمية" بأنّ "العالم ليس مستعدّاً لصعود الصين كقوة عظمى وأنّ أي دولة تهيمن على الصناعات في العالم ستهيمن على العالم سياسياً وعسكرياً."

في المقابل فإنّ هنالك بين المفكّرين الجيوسياسيين الأميركيين من يعتقد بأنّ على الولايات المتحدة أنّ تتبنى نهجًا أكثر تعاونًا مع الصين. وهم يقولون إنّ التعامل مع الصين ضروري لإدارة عدد كبير من التحديات العالمية، مثل مواجهة مشكلة تغيّر المناخ ومكافحة الأوبئة والحد من انتشار الأسلحة النووية، ويعتقدون بأنّ صعود الصين يشكّل فرصة للتعاون وضمان الاستقرار العالمي. ومن بين هؤلاء المفكّرين يتصدر المشهد هنري كيسنجر، وهو مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي الأسبق في مرحلة السبعينيات من القرن الماضي، الذي هندّس عملية انفتاح الولايات المتحدة على الصين، والذي ألّف عدداً كبيراً من الكتب تركّز بعضها حول الصين. وهو يقول إنّ "الصين والولايات المتحدة قوّتان عظميان ملزمتان بالتعاون في ما بينهما في عدد كبير من المجالات، وإنّ عليهما أن تتجنّبا التنافس الجيوسياسي في ما بينهما وأن تتعاونا لتحقيق اهدافهما المشتركة". ويعتقد جراهام أليسون، وهو الأستاذ بجامعة هارفارد ومؤلّف كتاب "مصير الحرب: هل تستطيع أميركا والصين الهروب من فخ ثوسيديدس،" بأنّ تصعيد التوتر مع الصين يهدّد باندلاع صراع من دون سقف بين بكين وواشنطن ما قد يكون كارثياَ عليهما وعلى العالم بأسره.

وبين طرفي النقيض يقف بعض المفكّرين الأميركيين الجيوسياسيين في الوسط مطالبين من جهة بمنع تبوّء الصين موقع الريادة العالمية، وفي نفس الوقت يطالبون بربط اشتباك مع الصين والتعاون معها في حل القضايا الدولية. وهم يعتقدون بأنّ الولايات المتحدة والصين بحاجة إلى إيجاد توازن بين التعاون والمنافسة، وبأنّ واشنطن بحاجة إلى اتخاذ موقف صارم تجاه الصين بشأن بعض القضايا مثل تلك التي تتعلق بحقوق الإنسان وحقوق الملكية الفكرية، وفي المقابل يقولون بأنّ عليها إيجاد مجالات ذات اهتمام مشترك مع بكين. ويتصدر هؤلاء المفكرين جوزيف ناي، وهو الأستاذ بجامعة هارفارد ومساعد وزير الدفاع الأميركي السابق، وهو يعتقد بأنّ المنافسة الذكية مع الصين تعني التنافس معها عند الضرورة، ولكن التعاون معها عندما يكون ذلك ممكنًا. وهو يشدّد على ضرورة عدم شيطنة الصين مع ضرورة البحث عن سبل للعمل معها.

خلاصة

يشكّل موضوع تعامل الولايات المتحدة مع صعود الصين كقوّة عظمى مسألة إشكالية بالنسبة لصنّاع القرار في الولايات المتحدة، ولا يوجد إجماع بين المفكّرين الجيوسياسيين الأميركيين حول السياسة المثلى التي يجب انتهاجها مع الصين، ما يجعل الموضوع معقداً ومثيراً للجدل بالنسبة لواشنطن.