جمال واكيم

تقوم العقيدة الاستراتيجية الأميركية على السيطرة على طرق الملاحة البحرية من جهة، واحتواء القوى التي تنشأ في البر الأوراسي من جهة أخرى. ولتحقيق هذا الهدف فإن الولايات المتحدة تعمل على منع اتحاد أوراسيا تحت مظلّة قوة واحدة، وعلى منع القوى الأوراسية من أن تصل إلى المنافذ البحرية، بما يتيح لها الوصول إلى طرق الملاحة الدولية، وبالتالي إلى التجارة العالمية التي يمر ثمانون بالمئة منها عبر طرق الملاحة البحرية. فوحدة أوراسيا (نسبة إلى الربط بين قارّتي أوروبا وآسيا) من شأنها أن تعزل الولايات المتحدة في قارة أميركا الشمالية، ما سيجعلها عرضة للانهيار من الداخل وفقاً لما كتبه المفكّر الجيوسياسي الأميركي نيكولاس سبيكمان خلال الحرب العالمية الثانية.

استراتيجية الإحتواء الأميركية لأوراسيا

ولقد تم اللجوء إلى أفكار سبيكمان عقب الحرب العالمية الثانية، بعد اندلاع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفياتي من جهة أخرى. ولقد كان هذا الأخير بنظر الولايات المتحدة أكبر قوة أوراسية، وكان تمدّده بعد الحرب العالمية الثانية إلى شرق ووسط أوروبا، وانتصار الثورة الشيوعية في الصين مع ماو تسي تونغ في العام 1949 يهدد بتوحيد أوراسيا تحت هيمنة الاتحاد السوفياتي. لذلك فإنّ أفكار سبيكمان ساهمت بدرجة كبيرة في صياغة استراتيجية الاحتواء للاتحاد السوفياتي وكتلة الدول الاشتراكية.

واستندت استراتيجية الاحتواء هذه على إقامة حلف شمال الأطلسي في العام 1949، والذي ضمّ الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبا الغربية إضافة إلى اليونان وتركيا لمنع الاتحاد السوفياتي من التمدّد غرباً باتجاه المحيط الأطلسي. كما أقامت الولايات المتحدة تحالف جنوب شرق آسيا لمنع الاتحاد السوفياتي من مدّ نفوذه باتجاه شرق آسيا. أما في الشرق الأوسط فلقد حاولت الولايات المتحدة إقامة حلف بغداد الذي ضم إليها كلًّا من بريطانيا وتركيا والعراق وإيران وباكستان لمحاصرة الاتحاد السوفياتي من الجنوب.

ولقد دعمت الولايات المتحدة استراتيجيتها بإقامة سلسلة قواعد عسكرية في غرب أوروبا وشرق المتوسط وجنوب شرق آسيا. وتقوم الاستراتيجية الأميركية على الاعتماد على قواعد عسكرية رئيسية تكون الركيزة لإدارة عدد من القواعد العسكرية الرديفة. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991 لم تتخلّ الولايات المتحدة عن استراتيجيتها تجاه القوى الأوراسية على الرغم من تخلّي موسكو عن العقيدة الشيوعية. فالمنطق الجيوسياسي لا يأخذ كثير اعتبار للبعد الأيديولوجي للصراع. من هنا فإن واشنطن أبقت على حلف الناتو وقامت بتوسيعه إلى وسط وشرق أوروبا، مهدّدة أكثر فأكثر العمق الروسي المُتَمَحور حول موسكو. حيث أنها في بداية الألفية الجديدة سعت للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط من المحيط الأطلسي غرباً إلى حدود الصين شرقاً. هذا الذي دفعها لاجتياح أفغانستان في العام 2002 بذريعة محاربة الإرهاب عقب أحداث الحادي عشر من أيلول، كما أنّ هذا ما دفعها لغزو العراق في العام 2003.

دور القواعد الأميركية في المنطقة العربية

ولضمان بقاء سيطرتها على هذه المنطقة، سعت واشنطن إلى إقامة سلسلة قواعد عسكرية في المنطقة العربية. لذلك فإنّه بعد ضرب العراق في العام 1991 خلال حرب تحرير الكويت، وبعد احتلال الولايات المتحدة لهذا البلد في العام 2003، أقامت عشرات القواعد في منطقة المشرق العربي. وتنقسم هذه القواعد إلى قواعد لخدمة البحرية الأميركية، وتضم قاعدة الدعم البحرية وقاعدة المحرق الجوية في البحرين، و"كامب ليمونييه" في دجيبوتي، ومرفأ "دقم" وقاعدة في مرفأ صلالة في سلطنة عمان، وقاعدة في مرفأ جبل علي وأخرى في قاعدة الفجيرة البحرية في الإمارات العربية المتحدة، وقاعدة في مرفأ ينبع التجاري، وأخرى في مدينة الملك فهد الصناعية. أما القواعد التي تؤدي خدمات للجيش الأميركي فهي "كامب باتريوت" في القاعدة البحرية الكويتية، "كامب بورينغ" في شمال غرب الكويت، قاعدة السيلية في قطر، قاعدة الرادار في ديمونة والموقع 883 في قاعدة ماشابيم في فلسطين المحتلة، قاعدة التنف في شرق سوريا وقاعدة "اف أو بي الوحدة 3" قرب بغداد في العراق.

وأخيراً، هنالك القواعد التي تقدم خدمات لسلاح الجو الأميركي ومن ضمنها قاعدة علي السالم ومخيم عريفجان في الكويت، قاعدة الظفرة في الإمارات العربية المتحدة، قاعدة إنجرليك ومحطة إزمير الجوية في تركيا، قاعدة عين الأسد في الأنبار وقاعدة بَلَدْ الجوية التي تبعد حولي 60 كلم عن العاصمة بغداد وقاعدة أربيل في العراق، قاعدة الشيخ عيسى الجوية في البحرين، قاعدة موفق السلطي الجوية في الأردن، قاعدة ثمريت الجوية وقاعدة مسيرة وقاعدة مسنة إضافة إلى قاعدة في مطار سلطنة عمان الدولي في عُمان، قاعدة العديد الجوية في قطر، ومحطات في قاعدة الأمير سلطان الجوية وقاعدة الملك فيصل الجوية وقاعدة الملك فهد الجوية وقاعدة إسكان الجوية في المملكة العربية السعودية.

دور قواعد المحيطَين الهندي والهادىء

ويتم إسناد هذه القواعد من قاعدة في عمق الجزء الغربي من المحيط الهندي وهي قاعدة دييغو غارسيا، وهذه القاعدة تقع ضمن أرخبيل من الجزر التابعة للإقليم البريطاني في المحيط الهندي، وقد تم نقل سكان الجزيرة بالقوة بين عامي 1968 و1973 الى مدينة موريشيوس والتي تبعد حولي 2200 كلم عن مدينتهم الأم، تمهيداً لإقامة قاعدة عسكرية مشتركة بين بريطانيا والولايات المتحدة تكون بمثابة قاعدة للهجوم على ايران والتي تبعد حوالي 5000 كلم عنها. وتقع القاعدة على بعد 3،535 كيلومتراً إلى الشرق من سواحل تانزانيا وعلى بعد 1،796 كيلومتراً إلى الجنوب من الهند و4،723 كيلومتراً إلى الغرب من استراليا. وميزة هذه القاعدة أنّها لا تقع ضمن نطاق مأهول سكانياً، كما أنّها بعيدة عن تهديدات الدول التي تصنّفها الولايات المتحدة على أنّها عدوة أو خصم لها، مثل روسيا والصين وإيران.

وتشكّل قاعدة دييغو غارسيا واحدة من قاعدتين رئيسيتَين تعتمد عليهما الولايات المتحدة للسيطرة على المحيط الهندي والمحيط الهادىء في مواجهة القوى الأوراسية. أمّا القاعدة الثانية فهي قاعدة أندرسون الجوية على جزيرة غوام في جنوب شرق آسيا. وهذه القاعدة هي الوحيدة في جنوب شرق آسيا التي تستطيع استضافة القاذفات الأميركية الثقيلة والبعيدة المدى وعلى رأسها الـ "بي 52". وقد بنيت القاعدة في العام 1944 خلال الحرب العالمية الثانية، وشكّلت منطلقاً للقاذفات الأميركية باتجاه أهدافها في اليابان. كما أنّها لعبت دوراً خلال الحرب الباردة في قصف أهداف في فييتنام ولاوس وكمبوديا. وفيما تعتمد الولايات المتحدة على قاعدة دييغو غارسيا لمراقبة أنشطة القوى الأوراسية المعادية لها من جهة الجنوب وعلى رأسها ايران، فإنّها تعتمد على قاعدة أندرسون لمراقبة القوى الأوراسية في جنوب شرق آسيا وعلى رأسها الصين.

وكما أنّ قاعدة دييغو غارسيا تشكّل الإسناد الرئيسي للقواعد الأميركية في المنطقة العربية وباكستان وأفغانستان، فإنّ قاعدة أندرسون تشكّل قاعدة الإسناد الرئيسية لمجموعة قواعد أميركية في شرق آسيا، في إطار الاستراتيجية الأميركية للسيطرة على طرق المواصلات البحرية واحتواء القوى الأوراسية.