الصفا

لطالما كانت أوراسيا الكلمة المزيج من أوروبا وآسيا، عنواناً أساسيا في علم الجغرافيا السياسية، كونها تمثّل نقاط التقاء ونقاط صراع في كثير من الأحيان بين الدول والأنظمة ذات القدرة العسكرية المتفوّقة، فضلاً عن كونها مسرحاً للمفاوضات الدبلوماسية المعقّدة.

التحليل الجيوسياسي الكلاسيكي الذي يركّز على المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية لفهم الضّرورات الأساسية لهذه البلدان والتي مبدئيا تتميّز بموقعها الاستراتيجي، خصائصها الاجتماعية والاقتصادية، والاهتمام المستمرّ بما يضمن استقرارها الداخلي وأمن حدودها.  ويعدّ استقرار الأراضي الحدودية أمراً بالغ الأهمّية، لأنّه وبدونه، تظهر ولو من بعيد مخاطر حرب وصراعات كبيرة. ومن هنا تبرز أهمية "المنطقة الحدودية الأساسية" كمفهوم حاسم في فهم استقرار النظام الدولي بشكل عام.

تقع المنطقة الحدودية الأساسية لقارّة أوراسيا في آسيا الوسطى، وتتقارب تأثيرات أوروبا وروسيا والصين والهند وإيران وباكستان، تمامًا كما كان الحال بالنسبة لأسلافهم.  فلو أخذنا أفغانستان مثالًا رئيسيا على منطقة حدودية أساسية، يمكن فهم الاهتمام المستمر للقوى الكبرى باستقرارها، لما لهذا الاستقرار من تأثير على محيطها الجغرافي. ويمكن الاستدلال على ذلك بما خلّفه انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من فراغ في السلطة في أفغانستان في وسط وجنوب غرب آسيا، مما أدى إلى إحداث تغييرات تردّد صداها في جميع أنحاء أوروبا ومناطقها الحدودية.

وهكذا يمكن تفسير توقيت الغزو الروسي لأوكرانيا الذي لم يكن من قبيل الصدفة، فهو أتى بعد فترة طويلة من الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط الكبير. وفي هذا الإطار يُسجّل تحرّك قوى، مثل بولندا وتركيا، لتعزيز مواقعها في أراضيها الحدودية.  ونتيجة لذلك، تصاعدت التوتّرات في ما يُسمّى بالمجالات الحيوية للتجارة والاستثمار الدوليين، ويُطلق على هذه المناطق اسم "العقد الجيوسياسية"، وهي أماكن ذات أهمية استراتيجية، حيث تلتقي قوتان أو أكثر من القوى الإقليمية أو العالمية، ويمكن أن تتعارض مصالح القوى الكبرى، لكن يبقى هذا التعارض متوازناً باتفاق الاطراف. وفي حال عدم الاتفاق يمكن للعقدة الجيوسياسية أن تضرب طرق التجارة الرئيسية التي توازن الاعتمادات المتبادلة بين الدول.

البحر الأسود وجنوبي بحر الصين... التقاء وتقاطع

على مرّ التّاريخ، كان البحر الأسود نقطة التقاء ومركز تقاطع للإمبراطوريات. وهذا ما سهّل الاتصال بين أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وشمال افريقيا. وهو لا يزال مركزًا حيويًا للاستقرار الإقليمي، ونقطة الالتقاء هذه، لا زالت العقدة الأكثر تضررًا من الحرب في أوكرانيا.

أمّا المسطّح المائي في الطّرف الآخر من آسيا الوسطى، وهو بحر الصين الجنوبي، فيُعدّ عقدة حديثة نسبيًا تزداد أهميتها بسرعة.  فبحر الصين الجنوبي اليوم هو مركز ثلث التجارة البحرية من حيث النسبة، ويرجع ذلك في الغالب إلى عودة ظهور الصين في العقود الأخير بقوة على الساحة الاقتصادية العالمية.

إنطلاقاً من هذه الوقائع يمكن قراءة سعي موسكو، وعلى مدار العقد الماضي، واستعدادًا للحرب في أوكرانيا إلى إيجاد طرق تجارية بديلة إلى أوروبا تتجاوز البحر الأسود، فعملت على زيادة من وجودها في بحر الصين الجنوبي.

 حالياً، تواجه الولايات المتحدة الامريكية والتي لا تزال القوة البحرية والبرية العالمية الكلاسيكية الأقوى، تحدّيين اساسيين في نفس الوقت:

الأول: هو عودة روسيا، وهي قوة برية إقليمية تتطلع إلى توسيع نطاق وصولها إلى ما وراء أوروبا.

الثاني: هو نوع جديد من المنافسين الأوراسيين والصينيين، وخاصة في البرّ والبحر.

كلما طال الصراع في أوكرانيا، زاد عدم اليقين في مياه البحر الأسود، وزاد الضغط على الصين،  وتحديدا على شواطئ بحر الصين الجنوبي، بهدف الانضمام إلى الحرب الاقتصادية العالمية.

 التنافس بين روسيا والصين

 لعبت روسيا دوراً هادئاً ولكن مهماً حول بحر الصين الجنوبي على مدار العشرين عامًا الماضية.  على الرغم من أنّ موسكو تتمتع بعلاقات وثيقة مع بكين، إلّا أنّها تعمل بشكل مطرد على تسليح المنافسين بمياه بحر الصين الجنوبي، مثال على ذلك فييتنام، وبدرجة أقلّ ماليزيا، بينما تحاول أيضًا بناء علاقات دفاعية مع الفليبين وإندونيسيا.  بالإضافة إلى ذلك، ساهمت روسيا بشكل كبير في تطوير موارد الطاقة البحرية في ما يسمّى بحر ناتونا الشمالي، قبالة سواحل إندونيسيا، بينما خفّضت شركات الطاقة الغربية كثيراً من استثماراتها في المناطق المتنازع عليها لتجنب الصراع مع الصين. وقامت روسيا بسدّ أي فجوات استثمارية كبيرة قد حصلت. فكانت اتفاقية الطاقة البالغة 400 مليار دولار أميركي على مدة 30 عامًا والموقعة في العام 2014 بين شركة البترول الوطنية الصينية وشركة الغاز الروسية المملوكة للدولة غازبروم بمثابة بداية المحور الدبلوماسي لروسيا تجاه آسيا.  وهو العام نفسه الذي غزت فيه روسيا شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا.

 في العام 2001، بلغت تجارة روسيا مع أوروبا ثلاثة أضعاف تجارتها مع آسيا (106 مليار دولار مقابل 38 مليار دولار).

في عام 2019، بلغت التجارة الأوروبية 322 مليار دولار مقارنة بـ 273 مليار دولار في آسيا.  بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، قطعت أوروبا العلاقات التجارية والاستثمارية مع موسكو، بينما احتضنتها آسيا.

 حظيت روسيا باستقبال مميز وبشكل خاص في جنوب شرق آسيا، حيث عززت فيتنام ولاوس وميانمار تعاونهم مع موسكو. وعلى مدى العقدين الماضيين، أنفقت فيتنام وحدها 7.4 مليار دولار على الأسلحة الروسية، بما في ذلك الطائرات المقاتلة والغواصات المتطورة.

والأهم من ذلك، أن أكبر دولتين في جنوب شرق آسيا، أي الفليبين وإندونيسيا، ارتبطتا باتفاقيات دفاعية واسعة النطاق مع روسيا.  وعلى ضوء ذلك، أرسلت موسكو ملحقها الدفاعي إلى الفلبين لأول مرة، وبدأت السفن الحربية الروسية في الابحار باتجاه خليج مانيلا.  رودريغو دوتيرتي، رئيس الفليبين آنذاك، دخل التاريخ من خلال كونه أول رئيس دولة فليبيني يزور موسكو مرتين، وسعى بنشاط لتوقيع اتفاقيات تتعلق بالطاقة والدفاع مع روسيا في العام 2019.

وفق هذه المعطيات يمكن تحليل الواقع الجيوستراتيجي لما يحصل في أوراسيا وتداخلات الحرب الأوكرانية التي تخوضها روسيا مع حركة الصين الأخيرة في اتجاهات مختلفة. بالتأكيد سنكون أمام مشهد جديد على الصعيد العالمي.