تعرف الولايات المتحدة جيّداً ما هي القدرات العسكرية للدولة اللبنانية. فهي التي تزوّد لبنان بالسلاح، وهي التي تمدّ القوى المسلّحة اللبنانية بالذخيرة، وهي التي تؤمّن قطع البدل للآليات ولسلاح الجو، أو تسمح لأطراف ثالثة بيعها إلى لبنان، وهي التي كانت تؤمّن المساعدة المالية للجيش، وهي التي كانت ولا تزال تدرَب الضباط حسب الحاجة والاختصاص.
تعرف الولايات المتحدة أيضاً قدرة "حزب الله" المالية والعسكرية وما بقي منها بعد الضربات الإسرائيلية التي لمّا تتوقفْ. وهي تعرف حجم تأثير أتباع "حزب الله" وحجم أخصامه المعلنين والذين يخشون الإعلان، ويعرفون كل شيء تقريباً عن بيئته بما فيها أولئك الصامتون الذين يفضّلون "عدم الخروج من جِلدهم".
والسؤال إذاً يصبح: ما دامت الولايات المتحدة تعرف كل هذا، لماذا تصرّ على الدولة اللبنانية أن تجمع سلاح "حزب الله" وسلاح سائر الميليشيات والفصائل المسلحة وتحدّد لها مهلاً لذلك؟
الجواب واضح لا لبس فيه. تريد الولايات المتحدة أن تتأكد من أن الحكومة اللبنانية ملتزمة بما أعلنته مراراً والتزمت به علناً وإنها جِدّيّة هذه المرة في التمسك بالتزامها. فتجربة الولايات المتحدة مع الحكومات اللبنانية المتعاقبة، تماماً كما تجارب الدول الصديقة التي مدّت لنا يد المساعدة أنتجت خيبات أمل وراء خيبات أمل. لم تسمع سوى كلام معسول، لكنها لم ترَ فعلاً أي تحرّك جِدّيّ يثبت صدق الحكومات اللبنانية في تنفيذ التزاماتها.
لسنا نقصد هذه الحكومة بالذات فمعظم وزرائها حديثو العهد في الإدارة العامة والعمل السياسي والحكومي، إلا أن نائب رئيس الحكومة ووزيرَي المال والثقافة كانوا أعضاء في حكومات سابقة ويعرفون كم مرّة لحست الحكومات السابقة تواقيعها، بما فيها الحكومات التي كانوا أعضاء فيها، فيما تفنّنت الحكومات في إيجاد الذرائع والأسباب التخفيفية التي جعلتها تلحس توقيعها. قليلُها كان مقنعاً ومعظمُها كذب وفساد.
كيف تتعامل هذه الحكومة مع تنفيذ "حصرية السلاح في يد الدولة"؟ تارة بالقول إنها التزمت المبدأ ولم تحدد موعد التنفيذ"، وطوراً تربطه بشروط، ثمّ بالمطالبة بتركه لرئيس الجمهورية لأنه على اتصال مباشر مع "حزب الله" بشأنه، ثم بالتحجج بتغيّر الظرف الإقليمي... وكل هذا لا يدلّ إلى جِدّيّة في التعاطي وإلى استمرار نهج الحكومات السابقة في شراء الوقت، بل في تضييعه.
يذكّر هذا النهج ايضاً بطريقة تعاطي الحكومات السابقة، منذ 2001 على الأقل، مع موضوع الإصلاحات البنيوية والتخلص من الفساد وإصلاح الاقتصاد والخصخصة وتصحيح الوضع المالي. بهذه كلها التزمت الحكومة اللبنانية في مؤتمر باريس 1 (آخر شباط 2001) وباريس 2 (أواخر تشرين الثاني 2002) وباريس 3 (أواخر كانون الثاني 2007) وباريس 4 الذي تغيّر اسمه إلى CEDRE (أواخر نيسان 2018).
الدولة اللبنانية لم تنفّذ من الإصلاحات إلا ما لم تستطع تجنّبه، ولم تكافح الفساد إلا على مستوى النشالين الصغار، ولم تصحح الوضع المالي فيما ذهبت المساعدات إلى جيوب المتنفّذين. في المقابل لم يصلنا من جمَل المساعدات سوى أذُنه، وكانت النتيجة انفجار الأزمة الكبرى في تشرين الأول 2019، ولا تزال الحكومات المتعاقبة، بما فيها هذه الحكومة تتهرّب من الإجابة على الأسئلة الأساسية.
إذا كانت الولايات المتحدة تضغط على الدولة اللبنانية لترى مدى جِدّيّتها، فنحن اللبنانيين متعطّشون أكثر لنلمس هذه الجدّيّة لأننا بمقدار ما كنا متحمّسين، تسكننا اليوم خيبة أمل قاتلة.