أمين قمورية

التقارب السعودي الإيراني ومعاودة العلاقات الرسمية بين البلدين، تطور مفصلي في الشرق الأوسط، من شأن نجاحه أن يحدث انفراجات كبيرة في المنطقة، لاسيما في الملفات الحساسة وأهمها اليمني ومن ثم السوري واللبناني والعراقي. لا بل من شأنه أيضا إذا ما وصل إلى خواتيمه المرجوة، أن يخفف الاحتقانات المذهبية القاتلة ويجعل من الخليج بحيرة استقرار سياسي، ومرتعاً اقتصادياً ومالياً جاذباً للاستثمارات والتجارة من كل أصقاع الدنيا لما يختزنه من طاقة وموقعاً استراتيجياً وطرق امداد.

الاتفاق، لم يأتِ من فراغ، دوافع كثيرة محلّيّة وخارجية في كلا الدولتين عجّلت في التوصل إليه، هو نتيجة لتغيير كبير يجري في المملكة حيث يتم التأسيس لسعودية جديدة، وهو حاجة ملحّة للجمهورية الإسلامية التي تعاند حصاراً خانقاً وأزمة اقتصادية تهدد استقرارها والراغبة في نيل اعتراف جيرانها بدورها الإقليمي. أرسيت لبنته الاولى في جلسات الحوار الخمس التي استضافها رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي في بغداد، ثم في مسقط العمانية، لكن المفاجأة أنه أعلن في بكين، في اليوم نفسه لإعادة انتخاب شي جين بينغ لولاية رئاسية ثالثة في الصين.

هذا تحوّل استراتيجي كبير يبرز تعاظم النفوذ العالمي للصين في منطقة كانت محسوبة على الولايات المتحدة تاريخياً. إنّه نقلة إلى الامام في عملية إعادة هيكلة النظام العالمي. الصين كانت تعيش خلف السور العظيم، كانت تكتفي بالعلاقات التجارية والاقتصادية مع دول أخرى لكن من دون سياسة. وبهذا الاتفاق تخطو الصين خطوة سياسية كبرى في منطقة نفوذ أميركية أساسية، تحتوي منابع النفط لتكتمل دائرة نفوذها بأكبر الدول المنتجة للطاقة: روسيا، فنزويلا، السودان وجنوب السودان، نيجيريا، الغابون، والآن العملاقين النفطيين السعودية وإيران.

ويبقى السؤال الأهم: أين واشنطن من ذلك كله؟ الإجابة واضحة. أميركا لا بد ممتعضة مما جرى، فهو ضمن سياق دولي – إقليمي يتراكم خلافاً لتصوّراتها عن هذه المنطقة التي كانت تصنع أحداثها، وإذا بها تصير مثل الدول الأخرى تكتفي بالتعليق الإعلامي على ما يجري فيها. صحيح أن البيت الأبيض سارع إلى الترحيب بالاتفاق الدبلوماسي بين السعودية وإيران، في إطار الجهود الرامية لإنهاء الحرب في اليمن وتهدئة التوتر في الشرق الأوسط . لكن كان للصحف الأميركية رأي أخر:

"النيويورك تايمز" كتبت إن الصفقة التي تمّت بوساطة صينية تقلب ديبلوماسية الشرق الأوسط وتتحدى الولايات المتحدة.  وأضافت:"لقد انقلبت التحالفات والمنافسات التي حكمت الديبلوماسية لأجيال في الوقت الحالي على الأقل". ولاحظت "إن الأميركيين، الذين كانوا الفاعلين المركزيين في الشرق الأوسط على مدى ثلاثة أرباع القرن الماضي، وكانوا دائماً موجودين في الغرفة التي حدث فيها ذلك، يجدون أنفسهم الآن على الهامش خلال لحظة تغير كبير. في المقابل، فإن الصينيين، الذين لعبوا لسنوات دوراً ثانوياً فقط في المنطقة، حوّلوا أنفسهم فجأة إلى لاعب قوي جديد. أما الإسرائيليون، الذين كانوا يغازلون السعوديين ضد خصومهم المشتركين في طهران، فيتساءلون الآن أين يتركهم ذلك؟".

"واشنطن بوست"، قالت من جهتها إن توسط الصين من أجل الاتفاق بين السعودية وإيران والمصالحة بينهما يثير دهشة واشنطن، حيث اعتبر بعض المراقبين أن إدراج بكين في الصفقة ازدراء صريح للإدارة الأميركية.

واعتبرت صحيفة "فاينانشال تايمز" أن توسط بكين للمصالحة بين الرياض وطهران انتصار للدبلوماسية الصينية يسلّط الضوء على نفوذ بكين المتنامي في منطقة الشرق الأوسط.

كذلك عبّرت الصحف الإسرائيلية عن خيبة أكبر، وتحت عنوان "لا يقيمون أي حساب لبايدن، وصفت "يديعوت أحرونوت" الدور الصيني والاتفاق بين الرياض وطهران بـ"بصقة في وجه بايدن"، قائلة إن "الأمر لا يقتصر فقط على تجنّب إيران المفاوضات النووية، فالسعودية الآن تعطي الأولوية لرئيس الصين وتتجاهل البيت الأبيض بشكل واضح".

ولم تكن واشنطن تخفي قلقها من تنامي الدور الصيني في الخليج، لا سيما عقب زيارة شي جين بينغ للرياض في كانون الأول/ديسمبر والإعلان عن “شراكة إستراتيجية” بين السعودية والصين، وما تلا ذلك من قمم صينية-خليجية وصينية-عربية. ومن ثم أتت زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى بكين في شباط/فبراير الماضي. الديبلوماسية الصينية كانت تعمل بصمت في هذه الأثناء.

بعد نجاح الصين في ترميم العلاقات بين السعودية وإيران، ستتركز الأنظار الأميركية على أوكرانيا، لمنع المبادرة الصينية لإنهاء الحرب فيها. كل الظنون الأميركية السابقة في شأن بكين حيال سعيها قد بدأت تتحقق. لم تعد الصين ثاني قوة اقتصادية فقط في العالم، همّها ينحصر بالتبادل التجاري فحسب. إن الصين في مستهل الولاية الثالثة لشي جين بينغ تُحقق “قفزة كبرى” في الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي تتخلّى عنها أميركا تدريجياً منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وتحشد كل قواها لمواجهة الصعود الصيني في المحيطين الهادىء والهندي. وعلى ما يبدو أن صين تشي قررت أخذ العبر من درس الاتحاد الأوروبي، انها لا تريد أن تكون عملاقاً إقتصادياً وقزماً سياسياً يعيش في جلباب أميركا.

لكن مهلاً، صحيح أن الحدث مفاجئ وجدير بالتوقف عنده ملياً. لكنه لا يقلّل من أهمية النفوذ الأميركي وحجمه الهائل في المنطقة، ذلك أن واشنطن هي الشريك العسكري الأول لدول الخليج، وستبقى كذلك في المدى النظور. وليس للصين أي قواعد عسكريّة وجويّة وبحريّة في الإقليم تتحكم بالملاحة وممراتها الحيوية، على عكس ما لدى أميركا وحلفائها هناك ومعظم الخريطة الكونية. ولا يبدو أن الاتفاق الجديد يتضمن أي ملاحق عسكرية سرّيّة، وحاجة واشنطن للنفط السعودي قليلة مقارنة بحاجات الصين لهذه المادة الحيوية والتي تستورد معظمها من السعودية وإيران. ولعلّ الاتفاق يوفر على الإدارة الأميركية عبء المطالبات الخليجية بضمانات أمنية أميركية تحميهم مما كانوا يسمونه "الخطر الإيراني" وهو حتماً لن ينقذ طهران من أزمتها الاقتصادية، ولن يخفف من الاحتقانات الداخلية فيها بفعل استمرار العقوبات الغربية.

قد لا يكون الاتفاق خبراً شديد الازعاج لواشنطن، لكن من الواضح أن التغيير بدأ يدقّ الأبواب حيث لن تعود أميركا وحدها "الأمّة الضرورية" الوحيدة للعالم.