في خضم المحادثات الجارية بوساطة أميركية بين لبنان وإسرائيل، ظهر مقترح مثير للجدل يقضي بإنشاء ما يُسمّى "منطقة ترامب الاقتصادية" على أجزاء من الأراضي الحدودية في جنوب لبنان. ورغم التسمية الاقتصادية التي يُروَّج لها، يكشف تحليل المعطيات المتوافرة أن هذا المشروع أقرب إلى منطقة عازلة منزوعة السلاح والسكان، تُطرح في سياق أمني–سياسي معقّد أكثر مما هو مشروع تنموي–اقتصادي فعلي.
مشروع بغطاء اقتصادي وأهداف أمنية
الاقتراح الذي أعلن عنه المبعوث الأميركي توم برّاك، وشارك في الترويج له وفد أميركي ضمّ ثلاثة أعضاء من مجلس الشيوخ الأميركي أبرزهم ليندسي غراهام، يأتي بزعم تحقيق الاستقرار في الجنوب اللبناني وتعزيز قدراته الاقتصادية، بمشاركة خليجية خصوصاً من قطر والسعودية. إلا أنّ ما بين السطور يشير إلى غاية أساسية: منع "حزب الله" من إعادة ترسيخ وجوده في المنطقة الحدودية بعدما التزم الـ "حزب"، ضمن اتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني 2024، بسحب قواته، في حين واصلت إسرائيل خرق الاتفاق وتدمير البنية التحتية المدنية والعسكرية في الجنوب.
ورغم أن الحديث يدور عن إنشاء مشاريع صناعية واستثمارات توفر فرص عمل لأهالي الجنوب، فإن الوقائع تشير إلى أنّ المقترح قد يكون مقدمة لعملية تهجير منظمة، خصوصاً أن المرحلة الأولى منه تتضمن إخلاء مناطق واسعة من السكان بحجة الأمن. التخوف اللبناني يتمحور حول تحوّل هذا المشروع إلى نموذج جديد من "الترانسفير" الديموغرافي، بحيث يُستبدَل السكان المحليون بأنشطة تجارية وصناعية تحت إدارة خارجية.
التناقض بين الاستثمار والسيادة
من الناحية القانونية، لا يتعارض إنشاء منطقة اقتصادية مع نصوص الدستور اللبناني التي تمنع التنازل عن الأراضي، لكنه يثير إشكاليات تتعلق بالسيادة والحقوق الديموغرافية. فقد استندت مصادر قانونية في حديثها لموقع "الصفا نيوز" إلى المواد القانونية (277 و298 و318) في قانون العقوبات، والتي تعاقب أي عمل يؤدي إلى ضم أراضٍ لبنانية لدولة أخرى أو منحها امتيازات خاصة، خصوصاً إن جاء من جهات غير حكومية ذات طابع سياسي أو دولي. إلا أن غياب الضمانات الأمنية، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي لمناطق لبنانية، يجعل أي استثمار في هذه المنطقة مرهونًا بقرار تل أبيب ومصالحها الأمنية.
الخشية الكبرى بحسب المصادر، هي أن تتحول المنطقة الاقتصادية المقترحة إلى أداة لتكريس التهجير القسري، خصوصاً في ظل استمرار النزوح منذ تشرين الأول 2023، وعدم وجود أي خطة عملية لعودة النازحين أو إعادة إعمار القرى المدمرة.
بين التفاؤل الحذر والواقع المعقّد
هناك من يرى في المشروع فرصة لإعادة إعمار الجنوب وتنميته اقتصادياً، شرط أن يكون تحت إشراف لبناني ودولي متوازن، وبعيداً عن الهيمنة الإسرائيلية المباشرة. فالتسريبات الإعلامية تتحدث عن إنشاء منشآت صناعية تابعة للدولة اللبنانية واستثمارات خليجية قد توفر فرص عمل وتعيد الحركة الاقتصادية إلى القرى الجنوبية. غير أن هذا السيناريو الإيجابي يصطدم بعقبات عدة: رفض "حزب الله" الصريح لنزع سلاحه دون ضمانات، استمرار الاعتداءات الإسرائيلية، وغياب رؤية اقتصادية وطنية شاملة تستوعب هذه المشاريع ضمن خطة متكاملة.
التجارب التاريخية تحذّر من الفشل
تجارب مشابهة حول العالم أظهرت أن مثل هذه المناطق غالبًا ما تبدأ بمبرّرات اقتصادية، لتتحول مع الوقت إلى مناطق أمنية خالصة. تجربة منطقة كايسونغ الصناعية بين الكوريتين التي أُنشئت عام 2002 كممر اقتصادي–أمني، انتهت بالإغلاق عام 2016 بسبب التوترات السياسية. وكذلك منطقة إيريز الصناعية شمال غزة، التي فشلت بعد اندلاع انتفاضة الأقصى الثانية، وتحولت إلى منطقة مغلقة بفعل الإجراءات العسكرية الإسرائيلية. وحتى المنطقة الاقتصادية المشتركة المقترحة بين شطري قبرص لم تُنفَّذ رغم تخصيص الاتحاد الأوروبي موازنات لها.
هذه الأمثلة تؤكد أن تغليب الهدف الأمني على الرؤية الاستثمارية يجعل مثل هذه المشاريع قصيرة العمر وغير مستدامة، بل ويحوّلها إلى أدوات عزل وتهجير.
غياب المقومات الاقتصادية في الجنوب
لكي تنجح أي منطقة اقتصادية خاصة، يجب أن تتوافر لها مقومات محددة: قربها من مرافئ حيوية أو مطارات نشطة، وارتباطها بشبكات طرق ومصادر طاقة، أو تواصلها مع مراكز بحث وتطوير في حال كانت تكنولوجية. أما جنوب لبنان، المحاصر بالنزاعات، والمفتقر إلى البنى التحتية اللازمة، فلا يوفّر بيئة مناسبة لأي من هذه النماذج. كما لا توجد اتفاقيات تطبيع أو تجارة مع إسرائيل، ما ينفي مبررات قيام منطقة تصدير أو تجهيز مشتركة.
مشروع معلّق بين الأمن والسيادة
حتى اللحظة، لم تُقدّم الإدارة الأميركية رؤية واضحة لمستقبل "منطقة ترامب الاقتصادية": لا حدود السيادة اللبنانية معلومة، ولا طبيعة الاستثمارات أو هوية الجهات المشغّلة، ولا ضمانات لعودة السكان أو احترام حقوقهم. كل ما هو مطروح حتى الآن فكرة فضفاضة تحمل في طياتها احتمالين متناقضين: إمّا أن تشكّل فرصة نادرة لإحياء الاقتصاد الجنوبي وإعادة النازحين، أو أن تكون واجهة ناعمة لمشروع تهجير ممنهج تحت غطاء الاستثمار.
في ظل هذا الغموض، تبقى التساؤلات الجوهرية قائمة: هل سيكون مصير الجنوب اللبناني اقتصاداً منتجاً أم منطقة عازلة جديدة؟ وهل سيُسمح لهذه المنطقة بأن تصبح رافعة تنمية، أم ستتحول إلى أداة عزل تخدم أولويات إسرائيل الأمنية؟ الجواب مرهون بما ستحمله الأسابيع المقبلة من قرارات لبنانية، وضمانات دولية، ونوايا حقيقية غير خاضعة لمعادلات القوة الإسرائيلية.