على امتداد أكثر من ستين عاماً، شكّلت الزيارات البابوية إلى لبنان لحظات استثنائية في تاريخ الوطن، تُقرأ دائماً في سياقها السياسي والديني والاجتماعي. فكل زيارة جاءت في مرحلة دقيقة، إما لتأكيد رسالة لبنان في الشرق، أو لدعم صيغة العيش المشترك، أو لتثبيت حضور المسيحية الحرة في المنطقة. واليوم، ومع زيارة البابا لاون الرابع عشر عام 2025، يستعيد لبنان هذا الإرث الروحي والوطني ليعيد طرح السؤال: ما معنى أن يزور البابا لبنان في هذا التوقيت بالذات؟
1964 — البابا بولس السادس: زيارة عبور بين حربين
جاءت الزيارة الأولى في التاريخ عام 1964 أثناء توجه البابا بولس السادس إلى الأراضي المقدسة. لم تكن الظروف اللبنانية حينها مثالية، فلبنان كان يعيش ارتدادات الصراع العربي–الإسرائيلي وتوترات سياسية داخلية، لكنه كان أيضاً في أوج "العصر الذهبي" الذي تميّز بالحرية، وبدور بيروت كمركز إعلامي وثقافي للعالم العربي. شكّلت الزيارة الأولى اعترافاً مبكراً بدور لبنان الروحي، ورسالة دعم لكيانه كنموذج للتعددية.
1997 — البابا يوحنا بولس الثاني: زيارة رسالة إلى وطن مجروح
بعد سبع سنوات على انتهاء الحرب الأهلية، جاء البابا يوحنا بولس الثاني إلى لبنان في مرحلة إعادة بناء الدولة والمجتمع. أطلق عبارته الشهيرة:
"لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة في الحرية والتعددية."
كانت البلاد خارجة من دمار طويل، مقسّمة نفسياً وسياسياً، ومُثقلة بالوصاية السورية. شكّلت الزيارة لحظة نادرة التقى فيها اللبنانيون حول معنى لبنان، أي أنه وطن قائم على الحرية والتعددية لا على الغلبة.
2012 — البابا بنديكتوس السادس عشر: زيارة تحذير قبل الانفجار الإقليمي
وقعت زيارة بنديكتوس السادس عشر في لحظة شديدة الحساسية: الثورة السورية كانت في عامها الثاني، لبنان على حافة الانقسام، وقلق وجودي كان يسود المسيحيين في المنطقة. اختار البابا أن يطلق من لبنان الإرشاد الرسولي الخاص بالشرق الأوسط، في خطوة رمزية تؤكد أن مستقبل المنطقة لا يُبنى إلا بالشراكة الإسلامية–المسيحية. كانت الزيارة بمثابة تحذير مبكر من سقوط صيغة العيش المشترك.
2025 — البابا لاون الرابع عشر: زيارة رجاء إلى وطن مُنهَك لكنه صامد
تأتي الزيارة الرابعة في تاريخ لبنان، والأولى للبابا لاون الرابع عشر بعد انتخابه، في مرحلة هي من الأصعب في تاريخ البلاد:
اقتصاد منهار، مؤسسات متعثرة، أزمة نزوح، حدود ملتهبة، وقلق وجودي لا يشبه إلا أيام ما قبل الحرب.
ومع ذلك، بدا المشهد مختلفاً: استقبال ضخم، مشاركة إسلامية ومسيحية واسعة، آلاف على الطريق من المطار—من رجال دين مسلمين إلى محجبات يحملن العلم البابوي، مروراً بكتائب الكشاف التي شكّلت ممر احترام. مشهد واحد جمع لبنان كاملاً حول ضيف واحد، في وقت يعجز فيه السياسيون عن جمع الناس حول أي ملف.
زيارة البابا اليوم ليست بروتوكولية، بل تحمل أبعاداً ثلاثة:
1 . بُعد روحي – تثبيت حضور المسيحية الحرة
هي رسالة بأن لبنان، رغم أزماته، ما زال موطناً مسيحياً أساسياً في الشرق، وركناً لا غنى عنه لاستمرار التوازن الروحي في المنطقة.
2 . بُعد سياسي – دعم صيغة العيش المشترك
زيارة البابا بهذا الحجم تعيد التأكيد على أن سقوط النموذج اللبناني يعني بداية انهيار نموذج التعددية في الشرق، وهو ما شدّد عليه رئيس الجمهورية في خطابه.
3 . بُعد اجتماعي – إعادة تعزيز الأمل
وسط اليأس العام، جاء البابا ليقول للبنانيين، مسيحيين ومسلمين:
أنتم شعب قادر على تجاوز الانهيار… وأن الوحدة يمكن أن تولد من الألم.
كلمة الرئيس عون: رؤية شاملة لمعادلة لبنان
كلمة الرئيس كانت واحدة من أكثر الخطابات اللبنانية وضوحاً في رسم هوية لبنان ورسالة وجوده، ويمكن تفكيكها إلى ثلاث مستويات:
أولاً: المستوى الروحي – لبنان كأرض مقدسة حية
أعاد الرئيس التأكيد على أن لبنان ليس مجرد دولة، بل جزء من التاريخ الروحي للعالم:
- استحضار ذكر لبنان في الكتب المقدسة.
- الإشارة إلى رمزية العذراء، والبشارة، ومار شربل، والمعمودية من مياه حاصبيا.
- ربط الشعب اللبناني بالمرأة الكنعانية كرمز للإيمان الذي ينتظر الشفاء.
هذا البعد الروحي يندمج تماماً مع هوية لبنان كجسر بين السماء والأرض.
ثانياً: المستوى السياسي – الدفاع عن صيغة 6 و6 مكرر
في فقرة شديدة الدلالة، قال الرئيس:
"لبنان تكوّن بسبب الحرية ومن أجلها."
"إذا سقط المسيحي سقطت المعادلة… وإذا سقط المسلم اختلّ الاعتدال."
هذه الجملة هي اختصار الفلسفة السياسية للبنان:
لا وجود لطائفة من دون الأخرى.
كذلك أكّد أن سقوط النموذج اللبناني يعني انتشار خطوط تماس جديدة في الشرق والعالم، ما يعني أن الحفاظ على لبنان مصلحة دولية لا فقط محلية.
ثالثاً: المستوى الاجتماعي – لبنان مساحة اللقاء الوحيدة في الشرق
أهم فقرة كانت حين وصف لبنان بأنه:
"الوحيد حيث يمكن لكل أبناء إبراهيم أن يلتقوا حول خليفة بطرس."
هذا يذكّر العالم بأن لبنان، رغم كل خلافاته، هو البلد العربي الوحيد الذي يجمع كل الطوائف حول ضيف واحد… وفي استقبال البابا رأينا ذلك بوضوح:
- محجبات يلوّحن للبابا على طريق المطار.
- أئمة ورجال دين سنة وشيعة يرحّبون بجلالته.
- الكشاف المسلم والمسيحي يستقبله معاً.
مشهد يختصر معنى العيش المشترك أكثر من أي مؤتمر سياسي.
أهمية الزيارات البابوية إلى لبنان كموطن مسيحي في الشرق
هذه الزيارات ليست فقط دينية، بل تحمل أبعاداً هويّاتية وجودية:
1 . تثبيت حضور المسيحية في الشرق الأوسط
لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي ما زال يحافظ على توازن ديموغرافي وتاريخي بين المسيحية والإسلام، والبابوات يعتبرون أن حماية هذا التوازن ضرورة لحماية الوجود المسيحي في المنطقة.
2 . دعم نموذج الحرية والتعددية
الكرسي الرسولي يرى في لبنان آخر مختبر ناجح للتعايش، ومكاناً يمكن أن ينطلق منه نموذج سلام للشرق.
3 . تعزيز الشرعية الدولية للبنان
كل زيارة بابوية تُعيد لبنان إلى الواجهة الدولية وتعطيه غطاءً معنوياً وأخلاقياً في فترات الانقسام.
4 . حماية صيغة الشراكة
البابوات يعتبرون أن سقوط الشراكة في لبنان سيؤدي إلى انفجار مذهبي في الشرق.
زيارة تحمل معنى القيامة
في بلد يمر بأسوأ أزماته، جاءت الزيارة الرابعة للبابا كأنها إعلان قيامة جديدة، ليس للمسيحيين وحدهم، بل لكل اللبنانيين.
من استقبال المسلمين والمسيحيين على الطريق، إلى الخطاب الوطني للرئيس، إلى رمزية اختيار لبنان كأول زيارة خارج روما—كلها إشارات بأنّ هذا الوطن، مهما انهار، يبقى حيّاً برسالته وبشعبه.
لبنان الذي يجتمع فيه الجميع حول البابا، هو لبنان الحقيقي… لبنان الرسالة.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
