لا يحتاج المرء إلى كثيرٍ من النباهة ليُدرك أنّ التصريحات الأخيرة التي أطلقها علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي، والتي اعتبر فيها أنّ وجود "حزب الله" أهم من الخبز اليومي للبنانيين، ليست سوى محاولة مكشوفة لإعادة ضخّ الحياة في نفوذ إيراني بدأ يخسر أوراقه تدريجياً في لبنان والمنطقة.

ومع أنّ لغة ولايتي ليست جديدة في مضمونها، إلا أنّ توقيتها – في ظل التحولات السياسية والأمنية المتسارعة – أضفى عليها طابع "الاستنجاد" أكثر من طابع "الاستقواء"، في وقت بات مشهد "محور الممانعة" يوحي بوضوح بمرحلة تفكّك تدريجي قد يلامس حدود الاحتضار السياسي.

ولايتي… محاولة متأخرة لفرض وصاية متآكلة

حرص ولايتي في تصريحاته على التأكيد أنّ وجود "حزب الله" ضرورة لا غنى عنها للبنان، رابطاً ذلك بـ "الاعتداءات الإسرائيلية" وبـ "خروقات وقف إطلاق النار".

لكنّ الرسالة الضمنية كانت أوسع من ذلك بكثير: فإيران تريد القول إنها ما زالت الممسك الأول بالورقة اللبنانية، وإنّ أي بحث في مستقبل سلاح "حزب الله" هو تهديد مباشر لمصالحها الاستراتيجية.

هذه المقاربة، وإن حاولت طهران ترويجها منذ عقود، أصبحت اليوم في موقع دفاعي أكثر منها هجوميّاً، خصوصاً بعد التراجع الملموس في قدرة إيران على إدارة ساحاتها الإقليمية كما في السابق، وبعد تصاعد النقمة الشعبية والسياسية داخل لبنان على أي تدخل خارجي في شؤونه السيادية.

لهجة لم يعد ممكناً التراجع عنها

جاء الردّ اللبناني على لسان وزير الخارجية يوسف رجّي، الذي اتّهم ولايتي بتجاوز حدود اللياقة الدبلوماسية والتدخل السافر في شؤون دولة ذات سيادة.

وقد وضع رجّي الأمور في نصابها بالقول إنّ السيادة والحرية واستقلال القرار الوطني "أهمّ من الخبز والماء"، رافضاً الطرح العقائدي الذي يسوّق له ولايتي، والذي يرى في لبنان ساحة مفتوحة للصراع، لا دولة قائمة بذاتها.

ويعكس هذا الردّ تحوّلاً جوهرياً في نبرة الدولة اللبنانية؛ فبعد سنواتٍ طويلة من الحذر، تجرأت بيروت هذه المرة على مخاطبة طهران بوضوح يُحاكي تحوّلات سياسية داخلية، وضغوطاً عربية ودولية متراكمة، واستياءً شعبياً آخذاً بالتصاعد من معادلة "السلاح مقابل الدولة".

استكمال الردّ من الداخل اللبناني

لم يتأخر رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع عن الانضمام إلى موجة الاعتراض، موجّهاً كلامه مباشرة إلى المرشد الإيراني ومستشاره.

جعجع دعا الرجلين إلى الالتفات إلى شؤون الإيرانيين وشجونهم بدل منح أنفسهم حقّ الوصاية على لبنان، ومذكّراً بأنّ لبنان دولة ذات دستور وسلطة منتخبة، وليست ساحة لتجارب إيديولوجية تُدار من خلف الحدود.

ويُقرأ موقف جعجع كجزء من مشهد سياسي لبناني آخذ في إعادة ترتيب الاصطفافات، إذ تتزايد القوى التي تعتبر أنّ استمرار الوضع الحالي لم يعد ممكناً، وأنّ استعادة القرار الوطني لم تعد قضية سياسية فحسب، بل قضية وجودية تتعلق ببقاء الدولة نفسها.

دعم سيادي لا مجرد دبلوماسية عابرة

وسط هذه السجالات، جاء التحرّك المصري ليشكّل غطاءً عربياً لهذه اللهجة اللبنانية المستجدة.

فالوزير بدر عبد العاطي لم يكتف بالتأكيد على دعم القاهرة للبنان واستقراره، بل ذهب أبعد من ذلك حين أعلن بوضوح دعم مصر لمبادرة الرئيس جوزاف عون باستعداد الجيش لتسلّم كل النقاط في جنوب لبنان.

هذا الموقف، المدعوم باتصال مباشر من الرئيس عبد الفتاح السيسي بالرئيس عون، يضع مصر في موقع اللاعب العربي الأكثر حضوراً في الملف اللبناني، في لحظة يحتاج فيها لبنان إلى مظلة عربية داعمة توازن النفوذ الإيراني الذي بدأ يفقد الكثير من ارتكازه.

سياق يفاقم عزلة "الحزب" بدل أن يعزّز حجته

في المقابل، تعمل إسرائيل على إعادة رسم قواعد الاشتباك بعد اغتيال هيثم علي الطبطبائي، الرجل الثاني في "حزب الله"، داخل الضاحية الجنوبية.

ورغم تهديدات وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بأنّ لبنان "لن ينعم بالهدوء" ما لم يُضمن أمن إسرائيل، فإنّ الرسالة الأوضح هي أنّ "الحزب" بات في موقع دفاعي معقّد، يواجه ضغوطاً من الداخل والخارج على حدّ سواء.

واللافت أنّ اغتيال الطبطبائي لم يُقابل بردّ مباشر حتى الآن، في مؤشر إضافي على تراجع قدرة "الحزب" على المناورة، وعلى دخول بنيته القيادية مرحلة اضطراب غير مسبوقة منذ العام 2006.

لحظة الحقيقة بين الدولة والوصاية

إنّ تناسل المواقف الرافضة لتصريحات ولايتي، رسمياً وسياسياً، ليس حدثاً معزولاً، بل يعكس تحوّلاً عميقاً في المزاج اللبناني العام.

فبعد سنوات من الرضوخ للأمر الواقع، يبدو لبنان اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى قول "لا" واضحة للوصاية الإيرانية، في وقت يتراجع فيه دور "محور الممانعة"، وتعود فيه مظلة عربية لتقديم بديل سياسي واقعي ومتوازن.

السؤال الكبير الذي يفرض نفسه الآن: هل يستثمر لبنان هذه اللحظة التاريخية، أم يتركها تفلت من بين يديه كما حدث مراراً في الماضي؟