في بلد يعيش انهياراً اقتصادّاً هو الأقسى في تاريخه الحديث، لم تسلم حقوق الموظفين من التآكل والتبخّر. وتعويضات نهاية الخدمة، التي كان يُفترض أن تشكل شبكة أمان بعد سنوات من العمل، تحوّلت بالنسبة إلى الآلاف من اللبنانيين إلى مأساة مفتوحة. فعلى امتداد الفترة من عام 2019 حتى 2023، صرفت الدولة تعويضات بالليرة اللبنانية، فيما كانت العملة تفقد قيمتها يوميّاً، فبقيت قيمة التعويضات تحت عتبة 500 دولار فعليّاً، رغم عقودٍ من الخدمة.

بين الضمان الاجتماعي وصاحب العمل: حلقة مفرغة

تعتمد آلية تعويض نهاية الخدمة في لبنان على اقتطاع 8.5% من الراتب الشهري للعامل وتسجيله في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وعند نهاية الخدمة، يُحتسب التعويض بناءً على آخر راتب مسجّل مضافاً إليه الفوائد المتراكمة. لكن هذه الآلية اصطدمت بعدة إشكاليات منذ بدء الأزمة المالية:

- أصحاب العمل لا يصرّحون بالأجور الفعلية، ما يؤثر مباشرة على قيمة التعويض.

- الرواتب المصرّح بها بقيت مجمَّدة على سعر صرف 1500 ل.ل. حتى عام 2022، بينما الدولار كان قد تجاوز سقف 90 ألف ل.ل.

- أصحاب العمل يتهرّبون من دفع التسويات، أي الفروقات بين الاشتراكات القديمة والتعويض الفعلي اليوم، ما يُدخل الملف في نزاعات قضائية طويلة.

تعويضات بلا قيمة.. والضحية واحدة

تشير إحصاءات الضمان إلى أن آلاف الموظفين الذين تسلموا تعويضاتهم في ذروة الانهيار المالي فقدوا فعلياً مدّخراتهم التقاعدية. وبدلاً من أن تساعدَهم هذه المبالغ على بدء حياة جديدة، وجد كثيرون أنفسهم بلا دعم، بل غارقين في الديون. بعضهم تقاضى مبالغ لا تكفي حتى لشراء بطارية كهرباء منزلية أو تسديد إيجار بضعة أشهر.

والمشكلة ليست فقط في قيمة التعويض، بل في عدم القدرة على إعادة تقييمه أو تعديله، إذ إن أموال الضمان تُعتبر أموالاً عامة، وأي تعديل يحتاج إلى قانون خاص لم يصدر بعد.

المحاكم مجمّدة، والحلول مجمّدة

في العديد من الحالات، تقدّم أصحاب العمل بدعاوى ضد الضمان الاجتماعي، بحجة وجود أخطاء في الاحتساب أو رفضاً لدفع التسويات، مستندين إلى قوانين موازنة مؤقتة. ونتيجة هذه الدعاوى، يُمنع الصندوق من صرف أي مبالغ حتى صدور حكم قضائي نهائي، وهو ما قد يستغرق سنوات.

وفي المقابل، لا يستطيع الصندوق التصرف بحرية، لأنه ملزم بالقوانين الحالية، فيما الدولة عاجزة عن تشريع قوانين جديدة تعالج الخلل المتفاقم.

مقترحات غير مكتملة

خلال السنوات الماضية، طُرحت حلول أبرزها:

- احتساب 50% من قيمة التعويضات القديمة على سعر صرف 45 ألف ليرة، تمويلها مناصفة بين الدولة وأرباب العمل. لكنه سُحب بعد رفض الاتحاد العمالي العام.

- قرض من البنك الدولي لدفع التعويضات المتأخرة، مع تقسيط طويل لأصحاب العمل. لكنه لم يلقَ توافقاً سياسيّاً.

- نظام جديد للتقاعد والحماية الاجتماعية أُقرّ في تشرين الثاني 2023، لكنه لم يُفعّل بعد.

الشركات أيضاً في خطر

وبينما يُحَمَّلُ الموظفون عبء الخسارة، تواجه الشركات خطر الإفلاس المحاسبي، بسبب التزامات نهاية الخدمة غير المموّلة. فكثير من المؤسسات تسجل ديوناً لصالح الموظفين لكنها تفتقر لأي تغطية فعلية لها، ما يعرّضها لمشاكل قانونية وهيكلية، في وقت تحاول فيه البقاء في سوق غير مستقرّة.

في المحصلة: الخاسر الأكبر هو الموظف

يبقى الموظف اللبناني هو الضحية الكبرى في هذه المعادلة المعقدة، فقد عمل لعقود منتظراً تعويضاً يستحقُه، لكنه تسلّمه بلا قيمة، ولا يملك حتى الآن أي أفق لاسترداده. وبين مماطلة الدولة، وتملص أصحاب العمل، وتدهور قيمة العملة، يبدو أن الأمان الوظيفي قد سقط تماماً، في بلد تتآكل فيه الحقوق كما تآكلت الليرة.

أوضح رسالة في هذا الملف: لا حماية بدون إصلاح تشريعي، ولا عدالة اجتماعية بدون شراكة حقيقية بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع.