في مشهد يعيد رسم خريطة الأمان في الجنوب والبقاع، يشهد لبنان استئنافاً واسعاً لعمليات إزالة الألغام والذخائر غير المنفجرة، في خطوة تتكامل فيها الجهود الدولية مع المحلية لإعادة الحياة إلى أراضٍ حُرمت من الأمان لعقود طويلة. فالمسألة لم تعد مجرد إزالة خطر عسكري قديم، بل أصبحت مشروعاً إنسانياً وتنموياً يمس حياة آلاف العائلات يومياً.
دور الأمم المتحدة والمنظمات الدولية
استأنفت قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) الأسبوع الماضي أعمال إزالة الألغام الإنسانية في الجنوب، بناءً على طلب رسمي من الحكومة اللبنانية، بعد نحو عامين من التوقف بسبب التصعيد الأمني عبر الخط الأزرق.
وتعمل فرق متخصصة من كمبوديا والصين في مناطق بليدا ومارون الراس تحت إشراف المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بإزالة الألغام، على مساحة تقدّر بنحو 18 ألف متر مربع، ضمن مذكرة تفاهم مع الجيش اللبناني وُقعت في آذار الماضي لتعزيز التعاون وتوسيع سلطة الدولة على الحدود. كما رفعت اليونيفيل عدد فرقها إلى 24 فرقة متخصصة، مقارنة بتسع فرق فقط في خريف 2023، ما يسمح بتوسيع نطاق التطهير ليشمل الطرق والذخائر غير المنفجرة.
بالتوازي، أنجزت المجموعة الاستشارية للألغام (MAG) مشروعاً ضخماً بدعم من وزارة الخارجية الألمانية، بلغت قيمته 2.2 مليون يورو، وامتد حتى شباط 2025. المشروع حقق نتائج لافتة شملت:
- تطهير 286,846 متراً مربعاً من الأراضي الملوثة (ما يعادل 40 ملعب كرة قدم).
- إعادة 10 مناطق آمنة للاستخدام الزراعي والسكني.
- دعم 13 قرية كانت تعاني يومياً من خطر القنابل العنقودية.
- تنظيم أكثر من 230 جلسة توعية لحوالي 3000 شخص، معظمهم أطفال، إضافة إلى حملات رقمية وصلت إلى 4.44 مليون لبناني.
- تأمين الحماية المباشرة لـ 9000 شخص عبر التطهير والتوعية.
هذه الجهود انعكست مباشرة على حياة الأهالي. سليم هزرة من البقاع الغربي يقول: *"بعد تطهير المنطقة، عادت أغنامي للرعي بأمان. لقد استعدت مصدر دخلي اليومي بعد سنوات من الخوف."*
البعد الإنساني والأمني
تأتي هذه الجهود في وقت حساس يتسم بتصاعد التوترات في الجنوب. إزالة الألغام اليوم لا تعني فقط التخلص من مخلفات الحروب السابقة، بل تمثل استثماراً طويل الأمد في:
- تعزيز الأمن الغذائي عبر إعادة إصلاح الأراضي للزراعة.
- دعم البنى التحتية ومشاريع السكن والتعليم.
- تقليص النزوح الداخلي وتعزيز الاستقرار المجتمعي.
الأرض هي مصدر الحياة
يؤكد الخبير في شؤون الأمن الإنساني، الدكتور فادي مراد، أن "التطهير من الألغام يوازي إعادة بناء المستشفيات والمدارس في أهميته. فالأرض هي مصدر حياة اللبنانيين، والزراعة هي صمام أمان اجتماعي واقتصادي. ما يجري اليوم ليس مجرد عملية تقنية، بل مشروع استراتيجي لبناء ثقة الناس بقدرتهم على البقاء في قراهم، بدل التفكير بالهجرة أو النزوح."
نحو مرحلة جديدة
تكشف هذه العمليات عن تحول نوعي في مقاربة لبنان لملف الألغام، يقوم على شراكة ثلاثية بين الجيش اللبناني، المؤسسات الدولية، والمنظمات الإنسانية. الهدف لم يعد يقتصر على تنظيف الأرض، بل بناء قدرات محلية مستدامة تضمن سلامة الأجيال القادمة.
ومع استكمال هذه المشاريع، تتحول مناطق كانت لعقود محرمة وخطرة إلى فضاءات آمنة للزراعة والتعليم والسكن، بما يفتح الباب أمام الاستثمار والتنمية في المناطق الحدودية والجبلية التي عانت طويلاً من التهميش والخطر.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]