لم يكن اختبار صخرة الروشة، بما رافقه من خرق للقانون وحرق لورقة الالتزامات، آخر اختبارات الصدام بين منطق الدولة الشرعية ولا منطق "الدويلة" غير الشرعية، بل أعقبه اختباران مفصليّان لا يقلّان عنه بلاغةً وخطورة بالنسبة إلى عمق حفرة الانهدام بين الغريمَين المتنافرَين المتناقرَين.

لا شك في أنهما لا يزالان في مرحلة التنافر والتناقر اللذَين يسبقان مرحلة التصادم وفقاً للحتمية التاريخية في العلاقة غير الطبيعية بين جسمَين مختلفَين متجاورَين ومتعايشَين على مضض، وسبب هذه المهادنة المرحلية يعود إلى محاولة بعض مَن في الدولة استخدام واقي الصدمات بحجّة التخوّف من "حرب أهلية" افتراضية مستبعَدة الحصول لاعتبارات واقعية، وتحت شعارَي "أولوية السلم الأهلي" و"المؤسسات العسكرية خط أحمر". مع العلم أن هذا التخوّف التبريري مع شعارَيه كان سبب ضعف الدولة وتفكّكها في مراحل سابقة من الحروب المتعاقبة على لبنان وفيه.

الاختبار الأول بعد "دوشة الروشة" لمدى انفصام الدولة والدويلة، رغم الارتدادات السلبية داخل السلطة، كان على مستوى السياسة الخارجية المرتبطة بشكل لصيق بمصير لبنان، فقد بادرت الأولى (الدولة اللبنانية) إلى الترحيب بخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب العشرينية المؤلفة من عشرين نقطة لحلّ أزمة غزة، واستطراداً أزمة الشرق الأوسط، بينما أعطت الثانية (الدويلة) إشارات سلبية سريعة إلى رفضها، على الأقل في وسائطها الإعلامية والصحافية حتى الآن.

وإذا كانت الدولة تنطلق من ثوابت نهجها في رفض الحروب وتأييد الحلول السلمية، والقياس على الحل في غزة لانسحابه على لبنان، عملاً بمبدأ حصر السلاح في اليد الشرعية وإنهاء عصر الميليشيات، فإن الدويلة (ثنائي "حزب الله" - "حركة أمل" وتوابعه) تُصرّ على "قدسية سلاحها" الخارج على الشرعية، تحت شعارها القديم الجديد "لن نترك الساح والسلاح".

ولا يخفى ازدياد عزلة هذا "الثنائي"، ليس فقط داخلياً عن الدولة وعن الأكثرية الموصوفة للمكوّنات اللبنانية، بل أيضاً خارجياً عن الأكثرية العربية والإسلامية الساحقة ومعظم دول الشرق والغرب التي أيّدت الخطّة، باستثناء إيران.

والواضح أن "خطة ترامب" كشفت مدى انعزالية "الجمهورية الإسلامية" مع ما ومَن تبقّى من أذرعها، وهذا ما يفسّر إيعازها إلى الحوثيين في اليمن بإسقاط ما عُرف بـ "الهدنة مع واشنطن" وإطلاقهم تهديداً جديداً للناقلات والسفن الأميركية في البحر الأحمر وباب المندب، وكذلك طلبها من "حزب الله" رفع عقيرته ضد تسليم سلاحه وتصدّيه للشرعية اللبنانية.

ولا يمكن منذ الآن استشراف ما سيؤول إليه الموقف الإيراني، وتالياً موقف "حزب الله"، خصوصاً إذا وافقت "حركة حماس" والفصائل المتحالفة معها على الخطّة، بعد تعديلات غير جوهرية لإنقاذ ماء الوجه، مع الإشارة إلى سلوك طهران السريع في تحريض "حماس" على الرفض تحت ستار المطالبة بتعديلات تعجيزية.

أمّا الاختبار الثاني فهو سياسي داخلي، لكنه شديد الارتباط بالملفّ الخارجي، ويتمثّل بالشرخ الذي حصل في مجلس النوّاب بسبب منع اللبنانيين غير المقيمين عن المشاركة الديمقراطية الكاملة في انتخاب النواب الـ 128.

والتعطيل الحقيقي الذي حصل، ليس منع نصاب جلسة مجلس النواب قبل يومين، بل تعطيل حق هؤلاء المنتشرين عبر خرق الدستور ونظام مجلس النواب وكسر إرادة أكثر من 67 نائباً في طرح مشروع قانون معجّل مكرّر لتثبيت هذا الحق وفقاً للأصول.

والحقيقة أن الرئيس نبيه بري لم يعطّل حق الاغتراب فقط، بل عطّل دوره كرئيس للمجلس الذي أفلت للمرة الأولى من سطوته، وتلقّى صدمة سياسية بعدم قدرته على تأمين النصاب، بعد 33 سنة ونيّف من رئاسته للمجلس، ولم يكن في حاجة إلى هذه السقطة الموجعة والخسارة السياسية اللتَين "توّجتا" مسيرته الدهرية.

ولكنّ السقطة الفعلية على المستوى الوطني هي استحالة الجمع بين نار "الدويلة" وماء الدولة، وفشل كل محاولات التقريب والتنسيق والتوليف، بدءاً من خواء حوار رئيس الجمهورية جوزف عون مع "أهل السلاح" على مدى ثمانية أشهر، وصولاً إلى تمزيق اتفاق "فعاليّة الروشة" للمسّ بهيبة الدولة، ثم تكريس الفراق البنيوي حول "خطّة غزة".

وحتى الآن، كل محاولات الاستيعاب والاقناع ذهبت وتذهب سدى، أمام الانكار المتمادي لنتائج الحرب، والمفاعيل التي أنتجها تغيير موازين القوى، والخوف من انسحاب حلّ غزة على "السلاح" في لبنان، بلوغاً إلى التسليم الشامل بما رسمه "الأخ العالمي الأكبر" دونالد ترامب.

وإلى أن يقذف الله نوراً في صدور "أهل الإنكار"، سيبقى في لبنان خطّان متوازيان لا يلتقيان، إلّا بأعجوبة، في زمن انخفاض وتيرة الأعاجيب.