في عالم اليوم الصغير، يبدو أن الهاتف الذكي أو الجهاز اللوحي لم يعد رفاهية فحسب، بل صار معياراً اجتماعياً يحتكم إليه الأطفال في علاقاتهم. عندما يرى طفل أن جميع أقرانه يمتلكون أجهزة ذكية وهو لا يملك، يتولد لديه شعور بالنقص والعزلة، ويبدأ بالضغط على والديه للحصول على هاتف لتجنّب هذا الإحساس، معتقداً أنّ الجهاز هو مفتاح الانتماء إلى المجموعة. وإذا لم يعرف الأهل كيف يواجهون هذا الموقف بحس تربية سليم، فقد ينشأ لدى الطفل شعور بالدونية أو بعدم المساواة.

من الناحية النفسية والتربوية، تكمن المشكلة الكبرى في أن التلبية المستمرة لرغبة الطفل في امتلاك الجهاز بدون تأجيل أو نقاش يخلق شخصية أقل قدرة على التحمل، أكثر اتكالية، وربما أكثر استهلاكاً. فكما جاء في النص، الحدود التربوية منذ الصغر مهمة جداً لتعليم الطفل التمييز بين الضروري والكسبي، بين ما هو أساسي وما هو ترف يمكن أن ينتظر.

أما من الجانب الطبي، ينبه الدكتور إبراهيم سليمان سليمان، طبيب الجهاز العصبي، في حديثه لموقع "الصفا نيوز" إلى أن "التعرض للشاشات قبل سن الثالثة يُؤثر مباشرة على بنية الدماغ والحالة النفسية للطفل. ويشير إلى أن الشاشة تستهدف مناطق في الدماغ مسؤولة عن المشاعر والإدراك، مما يجعل الطفل هشاً نفسياً، أكثر عرضة للغضب والعناد، وضعف في التركيز الدراسي، وقد تتطور حالة من الإدمان الإلكتروني بسبب إفراز مفرط لهرمون الدوبامين. ويضيف أن من الضروري تحديد أوقات آمنة لاستخدام الجهاز، وتجنب الشاشة في أول نصف ساعة من الصباح وآخر نصف ساعة قبل النوم، وتوفير بدائل نوعية تشرك أكثر من حاسة واحدة من حواس الطفل لتمنحه متعة ذات معنى بعيداً عن الشاشة".

ما تكشفه الدراسات الحديثة

الدراسات العالمية الحديثة تؤكد الكثير مما ذكر أعلاه:

دراسة منهجية أُجريت على أكثر من 89 دراسة خلال الجائحة أظهرت أن الأطفال والمراهقين زاد وقتهم أمام الشاشات بشكل ملحوظ، وأن ذلك تجاوز وقت التوصيات الصحية. مثلاً الأطفال الأقل من 5 سنوات كانوا يقضون قبل الجائحة متوسط ساعة إلى ساعتين يومياً، وزاد هذا الوقت إلى نحو 2.65 ساعة يومياً خلال الجائحة.

بحث آخر يشير إلى أن الوقت الزائد أمام الشاشات يرتبط بزيادة القلق، الاكتئاب، ضعف احترام الذات، وضعف الأداء الأكاديمي.

في سن الطفولة المبكرة، الاستخدام المكثف للشاشات يمكن أن يسبب تأخيرات في اللغة، ضعف المهارات الاجتماعية، ومشاكل في النوم والتركيز.

الوضع في لبنان: ما الذي نعرفه؟

لبنان، مثل العديد من الدول، يشهد تأثير الهواتف والشاشات على الأطفال بشكل ملموس:

دراسة لبنانية شملت نحو 966 عائلة لديها أطفال بين سنّ 2 و 6 سنوات أظهرت أن الأجهزة اللوحية (iPad) هي الأكثر استخداماً بنسبة حوالي 56.7%، تليها الهواتف الذكية بنسبة 50.1% .

في هذه العينة، الاستخدام الذي يتجاوز 4 ساعات في اليوم كان مرتبطاً باضطرابات في النوم، تدهور في الصحة العامة، زيادة في السلوك العدواني، وتغيرات في السلوك العام للأطفال.

من جهة الإنترنت والتكنولوجيا، استطلاع لبناني سابق كشف أن نسبة الشباب الذين يستخدمون الإنترنت عبر الهواتف مرتفعة جداً، مع نشاط ملحوظ على وسائل التواصل الاجتماعي مثل إنستاغرام وسناب شات.

حديث الخبير

في هذا الإطار تلفت الدكتورة كارلا منصور، أخصائية نفسية تربوية تعمل مع الأطفال والعائلات في بيروت، في حديثها لموقع "الصفا نيوز" إلى أن "الشعور بأن الهاتف أداة للانتماء يبدأ مبكراً، وغالباً ما يبدأ الطفل بالمقارنة بينه وبين أقرانه، مما يخلق ضغطاً لاشعورياً كبيراً. مهم أن يدرك الأهل أن رفض الهاتف ليس رفضاً شخصياً، بل حماية لنمو صحي. الحدود الزمنية واضحة: يجب ألا يبدأ استخدام الهاتف بشكل حرّ قبل سن مناسبة، وأن يكون دائماً بإشراف. أيضاً، جودة المحتوى أهم من الكمّ: اللعب التفاعلي والتعليم والرسم يمكن أن تملأ وقت الطفل بطريقة تغني تجربته وتخفف من إغراء الشاشات."

كيف يمكن للأهل التصرف بشكل تربوي حكيم؟

وإلى ذلك، تقترح د. منصور، بعض التوجيهات العملية، منها:

1. التوضيح الصادق مع الطفل: شرح أن لكل عمر احتياجاته ولم يتأخر الطفل إذا لم يمتلك الهاتف الآن، وأن الهاتف ليس مقياساً للنجاح أو الانتماء.

2. وضع حدود واضحة: تحديد أوقات مسموحة لاستخدام الجهاز ممنوع فيها مثل قبل النوم أو عند الاستيقاظ، تحديد مدة الاستخدام يومياً.

3. اختيار محتوى جيد وتعليمي: التركيز على الألعاب التفاعلية والتعليمية التي تشرك القدرات الحسية والحركية والعقلية، وتجنّب المحتوى السلبي أو العنيف.

4. البدائل النوعية: قراءة، الرسم، الأنشطة الخارجية، اللعب مع الأصدقاء الأسريّين، المشاريع اليدوية، كل ذلك يُوفّر شعوراً بالمرح ويقلّل من الاعتماد على الشاشة.

5. القدوة من الأهل: الأطفال يتعلمون بالنظر إلى سلوك الأهل، فإذا كان الأب أو الأم يستخدم الجهاز كثيراً أمامهم، يصعب توقع أن يحترموا الحدود.

6. مرونة في الطلبات: عندما يطلب الطفل هاتفاً، يمكن التفاوض: “سأعطيك بعد أن تثبت أنك تستطيع الحفاظ على الواجبات” أو “يمكن استخدام جهاز مشترك أولاً” بدلاً من الرفض القاطع أو الإذعان الفوري.

في الخلاصة، الهاتف ليس عدوّاً يُراد الانتصار عليه، بل أداة يمكن أن تكون مفيدة أو مضرة بحسب طريقة الاستخدام. الأطفال اليوم يعيشون في بيئة رقمية لا يمكن تجاهلها، إلا أن مسؤولية الأهل تكمن في توجيه هذا الاستخدام، تحديد الأطر، وغرس القيم والمهارات التي تسمح للطفل بالنمو متوازناً. فالمستقبل لا يُبنى بمجرد امتلاك جهاز ذكي، بل بالقناعات والقدرات التي يكتسبها الطفل عندما يواجه الحاجات والتحديات، ويتعلم الصبر، والانتظار، والتمييز بين ما هو مفيد وما هو مجرد رغبة.