منذ اللحظة الأولى لعملية "طوفان الأقصى"، سارعت الجمهورية الإسلامية في إيران الى التبرّؤ من أيّ علم مسبق بالعملية العسكرية. بلغ الأمر حدّ ردّ المرشد الإيراني علي خامنئي في 29 تشرين الثاني 2023، على من يردّدون أنّ "إيران تريد أن ترمي اليهود أو الصهاينة في البحر"، مؤكّداً أنّ "ذلك الكلام كذب وأشخاص آخرون من العرب هم من قالوه سابقاً". 

إيران كعادتها في الصراع مع إسرائيل تسعى إلى تحقيق المكاسب من دون أن تسدّد أيّ فواتير مباشرةً، معوّلة على أذرعها في المنطقة. فهي تمدّها بالأيديولوجيا والتكنولوجيا والمال والسلاح مقابل تحمّلها أعباء الدم. في عملية "طوفان الأقصى"، تدرّجت الرهانات وتدحرجت الممارسات: 

1-    راهنت إيران كما "حماس" ومعهما "حزب الله" وباقي أطراف محور الممانعة على أنّ نجاح "حماس" في أسر أكثر من 230 إسرائيلياً ونشرهم على مساحة القطاع سيشكّل درعاً بشرية تربك إسرائيل وتردع جنوحها المستدام الى العنف. لكن اعتماد الأخيرة بروتوكول "هانيبال" الذي يسمح باستخدام الأسلحة الثقيلة في حالة أسر أيّ جندي إسرائيلي - حتّى لو شكّل ذلك خطراً على حياة الجندي المخطوف – لضرب حركة الآسرين أطاح هذا الرهان. 

2-    الرّهان الثاني كان على عدم اجتياح غزة برّياً، لذا ربط "حزب الله" أي انتقال من مناوشات "النغنشات" وفق قواعد الاشتباك الى الحرب المفتوحة بهذه الخطوة. راحت نشوة هذا الرهان تزداد مع مرور الوقت والإعلان الإسرائيلي المتكرّر لبدء الاجتياح ومن ثمّ التراجع عنه الى أن نفّذ الاجتياح على أرض الواقع بدءاً من 27 تشرين الأول 2023.   

3-    الرهان الثالث كان على تقلّص فترة السماح الدولية للإجرام الإسرائيلي، والتعويل على أنّ الصمت الأممي سينقلب ضغوطاً على تل أبيب تُثمر وقفاً للقتال وطيّاً للصفحة الدموية مع مطلع العام الجديد حداً أقصى. 

هذه الرهانات قابلها تدحرج في الممارسات من قبل إيران عبر أذرعها: 

أ- تصاعد تدريجي في حجم وعدد الاعتداءات الحوثية على حركة الملاحة عند باب المندب، ما هدّد بقطع الشريان الأساسي للنّقل البحري الدولي عند البحر الأحمر مع ما يرتّبه من مضاعفات تجارية واقتصادية، إذ تمرّ عبره 40% من التجارة الدولية، وهو ما استدعى إعلان الولايات المتحدة في 18 كانون الأول 2023 تشكيل تحالف دولي للتصدّي لهجمات الحوثيين تحت مسمّى "حارس الازدهار". 

ب- ازدياد الهجمات الصاروخية أو عبر المسيّرات على القواعد الأميركية في العراق وسوريا، ما دفع واشنطن إلى زيادة ضرباتها على قواعد ومقارّ الميليشيات المتحالفة مع إيران التي تنفّذ هذه الهجمات لتعطيل قدراتها وإضعافها. 

ت- انفلاش جبهة جنوب لبنان وتفلّتها المتمادي مما سُمّي "قواعد الاشتباك" التي يحاول "حزب الله" التلطّي خلفها. لقد اتسعت مروحة ترسانة الأسلحة المستخدمة كما بقعة الاشتباك التي تمدّدت إلى بلدات عدة، وزاد عمقها الجغرافي ليتخطّى جنوب الليطاني إلى بلدات في قضاء جزين وكوثرية السياد وصولاً الى اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" صالح العاروري والقياديين في "الحركة" عزام الأقرع وسمير فندي ورفاقهم في قلب الضاحية الجنوبية. 

إيران كعادتها في الصراع مع إسرائيل تسعى إلى تحقيق المكاسب من دون أن تسدّد أيّ فواتير مباشرةً

لكن مع وتيرة التدحرج لا ينفع الحديث عن "قواعد الاشتباك" ولا تفرملها تبرئة إيران من أيّ مسؤولية عبر "التبشير" بـ"فدرالية" القرار داخل محور الممانعة كقول الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله في 3 كانون الثاني 2024: "محور المقاومة ليس على شاكلة غيره من المحاور برئاسة شخص يدير ويعطي الأوامر، بل هو محور يلتقي على إستراتيجيا ورؤية إستراتيجية واضحة (...) كلّ حركة مقاومة حيث هي تتصرّف بقرارها وهي التي تفتح الجبهة أو تغلقها انسجاماً مع الرؤية الإستراتيجية ومواءمة مع الرؤية والملاحظات الوطنية". 

لذا لبنان والمنطقة أمام لعبة "روليت روسية" بنسخة إيرانية. فطهران التي ترفع منسوب التحدّي من باب المندب إلى جنوب لبنان، تمارس الرقص على حافة الانفجار، معوّلةً على الدعوات الغربية والأميركية إلى عدم توسّع الحرب في المنطقة. فقد نقل موقع "العهد" الإخباري في 6 كانون الثاني 2024 عن السفير الإيراني لدى دمشق حسين أكبري أنّ وفداً خليجياً حمل رسالة من الولايات المتّحدة إلى طهران تتعلّق بالتوصّل إلى "حلّ المشكلة في المنطقة وعدم توسيع رقعة الصراع". إلّا أنّ رفع منسوب التحدي عبر لعبة "الروليت" هذه قد ينتهي برصاصة مفجّرة للمنطقة برمّتها. 

بالتوازي مع هذا الانتظار القاتل الذي يعيشه لبنان إقليمياً، يصرّ "حزب الله" على تكريس دوره كمالئ للفراغ الذي خلّفه الانسحاب العسكري السوري من لبنان في 26 نيسان 2005. فهو أشبه بشريك لدمشق بـ"سباق البدل" للتحكّم بمفاصل الدولة اللبنانية وقرارها. وهو أمر لا يقتصر على المضمون بل حتّى على الشّكل، وهذا ما يشعر به اللبنانيون اليوم عبر إصرار "الحزب" على أن لا تفاوض أو تهدئة على جبهة الجنوب قبل وقف الحرب في غزة. هذا ما أعلنه نصرالله في إطلالته الأخيرة في 5 كانون الثاني 2024، قال: "هذا يفتح للبنان فرصة أن يتمكّن بعد توقّف العدوان على غزّة من تحرير بقية أرضه من منطقة الـb1  إلى بقيّة مزارع شبعا وكلّ شبر من أرضنا، ونحن أمام فرصة حقيقية لتثبيت معادلة نمنع فيها العدو من اختراق سيادة بلدنا وهي فرصة فتحتها هذه الجبهة من جديد... لكنّ أيّ كلام أو تفاوض أو حوار لن يكون أو لن يوصل إلى أيّ نتيجة إلّا بعد وقف العدوان على غزّة".

إنّ "الحزب" يستخدم "نغمة" "وحدة المسار والمصير" التي عزف النظام السوري عدة سنوات على وترها لفرض هيمنته على لبنان وقمع الأصوات الرافضة لهذا المسار الذي يحتّم على لبنان دولة القانون السيّدة والحرّة والمستقلّة بئس المصير. لكن ليته يتّعظ من أنّه مهما طال زمن هذه النغمات تبقى "نشازاً" في مسمع التاريخ.