بعد عملية "طوفان الأقصى" وانطلاق الحرب الإسرائيلية الشعواء والعشواء على غزة تحت مسمّى "السيوف الحديدية"، بادر "حزب اللّه" في اليوم التالي (٨ تشرين الأول) إلى فتح جبهة الجنوب اللبناني ضد إسرائيل، تحت عنوان مساندة "حركة حماس" و"الجهاد الإسلامي"، أو "مشاغلة" الجيش الإسرائيلي لتخفيف الضغط عنهما.

ودأب "الحزب" منذ ذلك اليوم، مراراً وتكراراً، على ربط العودة إلى الهدوء ووقف القصف والتفاوض على التسوية، بوقف الحرب على قطاع غزة، ملتزماً نسبيّاً "قواعد الاشتباك" المعدّلة، وغير المحددة بدقة جغرافياً ونوعياً، مع بعض التجاوزات المتبادلة في عمق خطوط الطرفَين.

لكنّ ردود "المشاغلة" لم تقتصر على جنوب لبنان، بل اتسعت لتشمل قواعد أميركية في العراق وشرق سوريا، وكان أشدها خطراً المسيّرات والصواريخ التي أطلقها الحوثيون من اليمن، واستهدافهم السفن التجارية بحجة توجهها إلى إسرائيل أو خروجها من موانئها، بما يهدد حركة التجارة العالمية في أحد أكثر مساراتها البحرية نشاطاً وأهمية بين القارات.

وبات واضحاً أن إيران تسعى إلى توسيع المواجهة نحو ميدانها الأنسب والأرحب بحراً وبراً وجواً حول المنطقة الاستراتيجية المحيطة باليمن الحوثي، والممتدة من مضيق هرمز إلى باب المندب والبحر الأحمر، وفيها ضمناً شبه الجزيرة العربية والمملكة العربية السعودية تحديداً، ومَحاور النفط والماء والممرات الدولية الحساسة، بحيث تستطيع الضغط على اليد التي توجع الولايات المتحدة وأوروبا والهند والقرن الأفريقي ومصر (قناة السويس) أكثر من مياه المتوسط. وسيؤثر هذا الضغط على حركة الكوريدور الاقتصادي المستحدث والمنطلق من شرق الهند إلى غرب أوروبا والأطلسي عبر الخليج العربي وإسرائيل.

ويعود أحد أسباب اختيار إيران هذا الميدان الأفرو آسيوي للمواجهة إلى تراجع تأثيرها المباشر على ميدان غزة، حيث يتبيّن أن "حركة حماس" تحتفظ باستقلالية القرار والحركة، كما يحتفظ الجيش الإسرائيلي باليد العليا رغم إخفاقاته المتراكمة وعثراته الميدانية.

عاصمة "محور الممانعة" تتجه إلى توظيف عمليات "حزب اللّه" في جنوب لبنان، والمشاغلات" في العراق وسوريا، لمصلحة الميدان اليمني ومحيطه

ومعلوم أن "حماس" تكاد تتخلّى عن التوجيه الإيراني منذ تفرّدها بقرار عملية "الطوفان" مع ما تخلل هذا التفرّد من عتب، بل نقمة إيرانية مكتومة أو معلنة، وبات لمصر وقطر والسعودية، بالتفاوض مع الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل، دور متقدم على دور طهران في مواكبة وقائع الحرب وتطوراتها ومساعي الهدنة ومسالك المساعدات، وقطف الثمار.

لذلك، فإن عاصمة "محور الممانعة" تتجه إلى توظيف عمليات "حزب اللّه" في جنوب لبنان، والمشاغلات" في العراق وسوريا، لمصلحة الميدان اليمني ومحيطه، أكثر من توظيفها لمصلحة غزة حيث الأوراق تُفلت من يدها، ولم تعُد رابحة وفقاً لحساباتها، مع احتفاظها بالعنوان نفسه: مساندة القطاع تحت شعار "توحيد الساحات" غير المتكامل أصلاً، لأن هناك ضرورة إعلامية دعائية للاستمرار في استخدام الشعار نفسه، كغطاء لتجاذب المصالح الجيو -  استراتيجية مع واشنطن وسائر أطراف "الاتفاق النووي" المجمّد.

وليس تفصيلاً أن يتم تغييب "حماس" ومنظمات أخرى عن عمليات الجنوب منذ أسابيع، ما يؤكّد اتجاه طهران و"الحزب" إلى إضعاف الارتباط بغزة.

وهكذا، يتم ربط إيقاع عمليات "الحزب" في مواجهة إسرائيل بتطورات البحر الأحمر وباب المندب أكثر من ربطها عملياً بغزة، كما يتم الاستثمار في تحرّك فرنسا وغيرها من دول المساعي للجم التدهور الكبير في الجنوب هنا لخدمة الأهداف الإيرانية هناك.

وليس الرفض الذي تتمسّك به قيادة "حزب اللّه" ضد التطبيق الكامل للقرار 1701 وسحب وحداتها المقاتلة وأسلحتها إلى شمال الليطاني سوى ورقة إيرانية في المواجهة (والمساومة) الكبرى على خريطة النفوذ في ذاك الميدان الفسيح والحسّاس.

وهذا يعني أنّ الساحة اللبنانية، بكلّ شؤونها واستحقاقاتها، باتت مطية لما هو أبعد من قضية فلسطين وغزة رغم بقاء الشعارات نفسها، وانكشفت تمامأ حقيقة السلاح غير الشرعي الذي يتم توظيفه في خدمة الأجندا الإيرانية حصراً، مع أن هذه الوظيفة مكشوفة منذ انخراطه في الحرب السورية وصراعات اليمن والعراق وديار اللّه الواسعة.

وفي حال تمددت الحرب إلى لبنان، فلن تكون امتداداً لحرب غزة، بل وقوداً لحرب إيران في حقلها المفضّل، مع الحفاظ على الورقة الفلسطينية لستر حقيقة البراغماتية الإيرانية في تحصيل المكاسب.

فبدلاً من نجاح فك الارتباط بين لبنان وغزة عبر جنوبه بالمصير المعلوم، يتم ربطه بصراعات البحار الهوجاء وسياسات المضائق العرجاء، المفتوحة على المجهول، ويتحوّل اتجاه أزمته من ضيق بوّابة فاطمة في الجنوب إلى مضيق باب المندب والبحر الأحمر.