يترافق مقالي الأخير على موقع "الصفا نيوز" الأغرّ، مع انتهاء الحكومة من الإصلاحات البنيوية، بإقرارها قانون الفجوة المالية.
القانون الإصلاحي الأهم المؤجل من ست سنوات خرج كمشروع قانون، بعد إقرار التعديلات على السرية المصرفية، وإعادة هيكلة المصارف، وصدورهما بقانونين منفصلين من مجلس النواب في وقت سابق من هذا العام. أما مشروع قانون "الانتظام المالي واسترداد الودائع"، فقد أتى على شكل قانون إطاري عام، يتطلب الكثير من المراسيم التطبيقية في حال إقراره بالبرلمان.
مفتوح على التأويلات
يُسجَّل للحكومة جرأتها في إقرار قانون إشكالي أحجمت عنه الحكومات السابقة، لكنه، كغيره من القوانين، يعتريه عيبان جوهريان:
- الأول، تركه مفتوحاً على الكثير من التأويلات (Open-ended)، بما يعني أن نطاق تطبيقه غير محدد بدقة، ويترك مجالاً للتفسير أو الإضافة لاحقاً؛
- والثاني، ضعف آليات المحاسبة للمتسببين بضياع الودائع، قبل اندلاع الأزمة وبعدها.
مصير مجهول لودائع الليرة
القانون الذي سيعوض على مودعي الدولار واللولار على حد سواء، شمل بعد التعديلات الوزارية الموعدين بالليرة اللبنانية، من دون إيضاح الآليات التطبيقية. مع العلم أن هذه الشريحة التي صدقت مقولة أن "الليرة بتهزّ بس ما بتوقع"، أو منعت من تحويل أموالها إلى دولار من بعد وقوع الإنهيار، خسرت جنى عمرها كله. وتبلغ قيمة الودائع بالليرة اللبنانية 78152 مليار ليرة، لغاية تشرين الأول الماضي، بحسب البيان الموجز لجمعية المصارف، أصبحت قيمتها 868 مليون دولار فقط، بعدما كانت تعادل 52 مليار دولار على سعر صرف 1500 ليرة.
والأسهم التفضيلية أيضاً
القانون على أهميته لم ينصف حملة الأسهم التفضيلية، بل تعامل معهم كأنهم مستثمرون يعون مخاطرها المتمثلة في توقف المصارف عن توزيع الحقوق، في حال عدم تحقيقها أرباحاً. وعلى الرغم من عدم وجود رقماً دقيقاً لقيمة هذه الاسهم، إلا أنها تقدّر بمئات ملايين الدولارات، سيجري شطبها بعدما توقفت المصارف عن توزيع أنصبة الأرباح لحامليها كلياً منذ ست سنوات. مع العلم أن مصرف لبنان قال في التعميم 156 في العام 2020 أن هذه الاسهم سُوِّقت لأشخاص طبيعيين (أفراد) على أساس إنها مضمونة الفوائد، دون الإفصاح لهم بوضوح عن المخاطر المترتبة، وطالب بـ "معالجة مخالفات المصارف في تسويق الأسهم التفضيلية"، وهذا ما تجاهلته المصارف وتناساه القانون.
إشكالية توزيع الخسائر
يقر مشروع القانون بأن الخسائر ستطال أولاً مساهمي المصارف، ومن ثم الدائين الأعلى مرتبة، لتصل في النهاية إلى المودعين، بما يتوافق مع تراتبية المسؤوليات والخسائر التي يطالب بها صندوق النقد الدولي. إلا أن المشروع في المقابل يقول الشيء ونقيضه، في ظل صياغة ملتبسة، يفهم منها احتفاظ المصارف بجزء من رأسمالها. وعليه يشكل احتفاظ المصارف برأسمالها بالتوازي مع شطب من الودائع مخالفة لأبسط قواعد النظام الرأسمالي الحر، ويناقض التراتبية التي يجري الحديث عنها.
نزاع قضائي محتمل
إضافة إلى ذلك يشكل القانون مدخلاً لنزاع قضائي طويل. فتصنيف ودائع بالمشبوهة سيفتح الباب أمام دعاوى تتطلب سنوات طويلة للبت بها. وهو ما سيحول، من جهة، دون إعادة الهيكلة بانتظار معرفة مصيرها، ويؤدي، من الجهة الثانية، إلى إمكانية عودة مبالغ إلى سلة الحلول من دون تحديد من يتحمل سدادها. وما يثير الخشية هو أن تداعيات التطبيق سترتد في النهاية على الدولة، وستتحمل أعباء لن يكون بمقدورها الوفاء بها، ولا سيّما في ظل الديون الكثيرة عليها، والتي تقدر بأكثر من 50 مليار دولار، من دون احتساب كلفة الإعمار المؤجلة.
غياب العدالة يتمثل أيضا في ابتعاد مشروع القانون عن المحاسبة الجدية، فمن حوّل أمواله إلى الخارج من مصرفيين وسياسيين ونافذين سيدفع عليها ضريبة 30 في المئة، تعود لصندوق استرداد الودائع، وليس إلى المصرف الذي خرجت منه للتعويض على موديعه. فيما سيغرم بضريبة 30 في المئة فقط من سدّد قروضا بالليرة اللبنانية. ولم تشمل الضريبة أولئك الذين سددوا باللولار، أي عبر الشيكات المصرفية والتحويلات، وهم الأكثرية، الأمر الذي يفوّت على المصارف دخلاً قد يوازي بين 7 و10 مليارات دولار، ذلك أن المبالغ المسددة خلال هذه الفترة تتجاوز 33 مليار دولار. ولا يوضح مشروع القانون مصير المودعين في المصارف التي سيجري تصفيتها، وكيفية استرجاع ودائعهم وبأي قيمة.
استعادة الودائع
تشكل استعادة الودائع نقطة الخلاف الأساسية بين مؤيدي مشروع قانون الحكومة، وبين المطالبين بتطبيق شروط صندوق النقد بحذافيرها. لكن في حالتي اعتماد طريقة صندوق النقد أو الحكومة، فان الجزء الاكبر من الودائع سيضيع، أو باللغة الاحترافية سيلحقه هيركات كبير.
فاقصى ما سيتم دفعه من مجمل الـ 87 مليار دولار لن يتجاوز 21 ملياراً بشكل مباشر، فيما بقية الودائع التي تناهز 70 مليار دولار، ستواجه هيركات في جميع الحالات. فبحسب مشروع قانون الحكومة سيجري اقتطاع مبالغ كبيرة من الودائع، إن بشكل مباشر على غرار الودائع بالليرة التي حولت إلى دولار بعد وقوع الإنهيار، أو بشكل غير مباشر من خلال التضخم وتذويب قيمتها على مر السنوات وتقديمها بسندات دين مرهونة بأصول مصرف لبنان. ومن الصعوبة بمكان عند الاستحقاق تأمين كامل المبلغ للعديد من الأسباب، أهمها: انعدام الثقة، وفقدان لبنان للأسواق المالية، وصعوبة تعافي القطاع المصرفي بالسرعة المطلوبة.
والأهم أن أصول مصرف لبنان لا تكفي لسداد هذه المبالغ حتى بعد احتساب الذهب. فمن أصل 287 طناً من الذهب، هناك 95 طناً، أي ثلث الكمية، مخزن في قلعة "فورت نوكس" في ولاية كنتاكي الأميركية، ومن شبه المستحيل استرجاعها. وفي حال سلمنا جدلا بتجاوز قانون منع المس بالذهب رقم 42 للعام 1986، فإن استشعار حملة السندات بامكانية استعمال الذهب للتعويض على المودعين، سيحرك الدعاوى على لبنان، مع إمكانية الحجز على أصول مصرف لبنان، ولا سيّما طائرات الميدل ايست والذهب والعقارات. ولن "يعود من القبع إلا الربع". هذا عدا عن أن العقارات والشركات الي يملكها المصرف المركزي مثل: الكازينو، وانترا والميدل ايست، غير محددة القيمة بشكل دقيق وقد لا تتجاوز قيمتها الفعلية خمسة مليارات دولار.
أما في ما خص سيناريو صندوق النقد الدولي، فيتوجب شطب جزء كبير من الودائع باعتبارها خسائر محتمة في النظام المصرفي، لا يمكن للدولة تحمل مسؤوليتها أو تعويضها بأي شكل من الأشكال. مع العلم أن مثل هذا الحل، على قساوته، من شأنه أن ينهي الازمة، ويخرج القطاع المصرفي من حالة "الزومبي"، ويحد من إمكانية تكرارها بعد عدد من السنوات.
القضية مستمرة
حاولنا طوال ثلاث سنوات، على هذه الصفحة بالذات، إيصال صوت الناس إلى المعنيين بالهمّ الاقتصادي، وتسليط الضوء على المشاكل والتجاوزات، وإبراز النجاحات والإنجازات. ساعدنا على ذلك مالك للموقع، الراحل إسكندر الصفا، الذي ترفّع عن الأنا والمصالح الضيقة التي تتحكّم بالمعنيين بالشأن العام. وواكبتنا إدارة موضوعية وحكيمة، تحت إشراف وزير الداخلية السابق العميد المتقاعد محمد فهمي، لا تفرض ضوابطها إلا في إطار كلمة الحق والموضوعية. ورافقنا فريق تحريري محترف، وزملاء إداريون وفنيون لم يألوا جهداً، على إخراج المواد بشكل احترافي، و بأجمل صيغة في الشكل والمضمون، تحترم عقل القارئ ولا تخدش لغته أو تنفّره مما يقرأه.
في الختام، يقال: النهايات وهم، كونها تمثل البداية لشيء آخر، ومع هذا يبقى لها وقع مؤلم. سألقاكم بمقالات عبر منصة جديدة، تدخل عميقاً من البوابة العريضة التي فتحها قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع، وغيره من الإجراءات؛ إلى الملتقى.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
