ما هو الرابط، أو الشريط اللاصق، أو خيط النسيج الرفيع الذي يجمع كلّ هذه اللقاءات المتدافعة حول أزمة لبنان، خلال الأسبوعين الأخيرين من هذا العام؟
فمِن "ميكانيزم" الناقورة، إلى رئيس وزراء مصر مصطفى مدبولي في بيروت، إلى اجتماعَي باريس الثلاثي فالرباعي، إلى التسريب عن زيارتَي مسؤول "خارجية حزب الله" عمّار الموسوي لتركيا والسعودية، وصولاً إلى قمّة ترامب - نتنياهو في واشنطن، يترابط هذا النسيج السياسي الأمني العسكري الاقتصادي في شبكة عربية إقليمية دولية حول لبنان وغزة وسوريا وملفّات التسويات الكبرى في الشرق الأوسط.
واللافت أن طهران هي الغائب الأكبر، (في المشهد العام على الأقل)، عن هذا الازدحام السياسي، ليس بسبب ترفّعها أو تعفّفها، بل لأن الحلول المطروحة للتداول بين الدول المذكورة والمعنيّة تتناول تصفية تركة النظام الإيراني الثقيلة في المنطقة، من صنعاء إلى بغداد وبيروت وحيث تتمدّد مَجسّاته، بعدما تمّ عزل "نظام ولاية الفقيه" (ما اضطرّه إلى عزل نفسه) عن الإجماع العربي الإسلامي الدولي في قمّة شرم الشيخ الأخيرة.
ولا تخفى رغبة أنقرة في الحصول على حصّتها من تركة "الرجل الإيراني المريض"، في محاكاة معكوسة لتقاسم تركة "الرجل التركي المريض" غداة هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
ولعلّ "حزب الله" بدأ يبحث عن غطاء آخر بعدما أدرك اتساع عريه بفعل انكماش الغطاء الإيراني وتمزّق الغطاء السوري، ما اضطرّه إلى التودُّد للدولة التركية والمملكة العربية السعودية، فربما ترفّقتا به وساعدتاه على الاستمرار السياسي في الحد الأدنى، لتعذّر تغطيته أمنيّاً وتسليحياً وعسكرياً، ولاستحالة دعم استمراره في المشروع الإيراني.
ووفقاً لنتائج الحروب الثلاث، "طوفان الأقصى" في غزة و"الإسناد" في لبنان و"١٢ يوماً" في إيران، فإن القرار الموحّد لدول "شرم الشيخ" يقوم على تصفية النفوذ الإيراني الخارجي حيث وُجِد، لفتح المجال أمام التسويات التاريخية، وبدء مرحلة الاستقرار والازدهار في المنطقة.
وتصفية نفوذ إيران في لبنان تعني حُكماً نزع سلاح "حزب الله" ووقف تدخّلها السافر لتأليب أو تغليب الدويلة على الدولة، وهذا هو فعلاً الشريط الرابط بين الاجتماعات والزيارات المتلاحقة خلال الأيام الفائتة والأيام الطالعة، بدءاً من زيارة أعضاء مجلس الأمن الدولي، إلى جولة السفراء والملحقين العسكريين في الجنوب، إلى الدور المصري، إلى الـ "ميكانيزم" واجتماعات باريس وواشنطن.
وفي هذا المخاض، تبدو عبارة الأمين العام لـ "الحزب" الشيخ نعيم قاسم "لن نسلّم سلاحنا ولو اجتمعت علينا الدنيا وأطبقت السماء على الأرض" نوعاً من الفولكلور الشعبي، أو ضرباَ من ضروب الغيبيّات.
بل لعلّ الشيخ قاسم بات مجبَراً على المغالاة، بل الغلو في التشدّد وشدّ أحزمة سلطته داخل حزبه بعدما لوّحت له مرجعيّته الإيرانية ببديل منه هو عبدالله صفي الدين شقيق الأمين العام الراحل السيّد هاشم صفي الدين.
وهذا التشدّد، من قاسم أو من غريمه المفترض تحت عباءة "المرشد الأعلى"، يعني السير عكس المسار العام اللبناني العربي الإقليمي الدولي، وتعريض وضع "الحزب" ولبنان لحالة انتحار جديدة، ولن يكون هناك مَن يربط زند إسرائيل كما يفعل حتى الآن الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
والمثير في هذين المكابرة والانكار أن أصحابهما يكرّرون عبارة "هذا مجرّد تهويل"، تماماً كما فعلوا منذ إطلاقهم "حرب الإسناد"، لظنّهم أن إسرائيل غير قادرة على شنّ حرب واسعة، مع رهانهم على المأزق الداخلي لنتنياهو والصراعات السياسية الإسرائيلية، وحتى على الاختلاف بين تل أبيب وواشنطن.
ولكن، هذا هو "العالَم" يجتمع على قرار تصفية سلاح "حزب الله"، من خارج اللعبة الثنائية الخاوية عن "نزعه" أو "احتوائه"، لأن سلاحاً لا يمكن أو يستحيل استخدامه يتحوّل إلى خردة تُباع للكسر، فما هي حيلة "الحزب" وإيران في مواجهة هذا القرار، وما هي قدرتهما على الاحتفاظ بالسلاح؟
إذا كانت "الحرب استمراراً للسياسة بوسائل أخرى" كما قال الباحث الاستراتيجي الألماني كارل فون كلاوزفيتز قبل مئتي سنة. فإن العكس هو صحيح أيضاً. فـ "السياسة هي استمرار للحرب..."، ما يعني أن ما نتج عن الحرب تكرّسه السياسة، وهذا ما على طهران وذراعها اللبنانية أن تدركاه وتتلقّنا دروسه، قبل فوات الأوان.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
