من حضن المبادرة الفرنسية إلى جدول أعمال الموفدين القطريين ورؤيتهم للحلّ بمباركة أميركية ولا ممانعة سعودية

"لبنان لا يراد له أن ينهض ولا أن يقع، بانتظار حل أزمة الشرق الأوسط" قالها لي رجل حكيم قبل زمن طويل. وكان رهن البلاد والعباد وإغراقنا بالدين بانتظار تسوية كبرى تتمثل بتوطين اللاجئين وتجنيس النازحين مقابل شطب الدين أو وقف الانهيار والمساعدة على النهوض، مع ما يعنيه هذا الأمر من تغيير لهوية هذا الوطن وديمغرافيته، وأيّ تغيير مقبل وفق هذا المنظور لا بدّ وأنه سيغيّر وجه لبنان الذي نعرفه.

لبنان الذي ينتقل اليوم من حضن المبادرة الفرنسية إلى جدول أعمال الموفدين القطريين ورؤيتهم للحلّ بمباركة أميركية ولا ممانعة سعودية. يحصل كلّ هذا بظلّ غياب أيّ تأثير لبناني حقيقي على مسار الأمور.

تبدو الحكومة المستقيلة عاجزة عن تحقيق أيّ إنجاز حقيقي ولو بسيط لوقف التدهور الحاصل، بل يبدو للبعض أنّها تعمّق الهوّة التي تغرق البلاد فيها يوماً بعد يوم. فإن كانت هذه حال الحكومة فإنّ المجلس النيابي لا يزال عاجزاً عن انتخاب رئيس للبلاد، بفعل الانقسام الحاصل بين كتله حيث لا أكثرية وازنة تستطيع إيصال مرشحها، ولا آلية دستورية أو مهلة محدّدة تضع حدّاً للفراغ الحاصل. وعدم الدعوة إلى جلسة انتخاب مفتوحة لانتخاب الرئيس تدفع ببعض الكتل إلى مقاطعة أيّ جلسة تشريعية للمجلس ما يعطل دوره هو الآخر. أما السلطة القضائية فهي لم تتعاف منذ المواجهة بين المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات والمحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، كما ما جرى بين مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون والمجلس التأديبي للقضاة على خلفية تصريحاتها وملاحقتها لحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة.

هذه حال السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويبقى الرهان على السلطات الأمنية من جيش وقوى أمن داخلي وأمن عام، مع العلم إن جهاز الأمن العام يرأسه اليوم في منصب المدير العام بالإنابة اللواء الياس البيسري. أمّا قيادة الجيش الذي تتبنى واشنطن وقطر ترشيح شاغلها العماد جوزف عون إلى سدة الرئاسة، هو قابل للشغورخلال القسم الأول من شهر كانون الثاني من العام المقبل، أي بعد أقل من أربعة أشهر. وعلى صعيد المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي لا يمكن عدم التوقف أمام ما جرى أخيراً بين وزير الداخلية بسام مولوي والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان. هذا الواقع الحاصل على مستوى يتصل بالقيادات وأعلى رأس الهرم، يدفع للسؤال عمّا يحصل على مستوى القطع والوحدات والعناصر وما يعيشونه من أزمات معيشية خانقة بفعل الأوضاع الاقتصادية والمالية الصعبة، فالرهان على الأجهزة الأمنية يحتاج إلى مقومات ودعم ومساعدات غير متوافرة في الأفق المنظور، فطالما كان الحال كذلك يكون أضعف الإبمان الحفاظ على ما تبقى من معنويات وكرامات.

وطالما ذكرنا الأزمة المالية لا يمكن إلّا أن نتطرّق إلى واقع مصرف لبنان، حيث ومنذ أن شغر موقع الحاكم وفي ظل عدم القدرة على تعيين حاكم جديد آلت المسؤولية إلى نائب الحاكم الذي أصبح حاكماً بالإنابة. ومع تسلمه مهامه دخلنا في معمعة عدم إقراض الدولة أو إقراضها ووفق أيّ شروط، وصولاً إلى إلغاء منصة صيرفة والاستعداد للعمل مع منصة بلومبيرغ، مع ما يعنيه هذا الأمر من تحرير كلّي لسعر الصرف، ما يعني أن التسعير سيكون بحسب سوق العرض والشراء. أمّا ما يتصل بمصير أموال المودعين في المصارف الخاصة ومسؤولية الحكومات المتعاقبة كما المجالس النيابية، فهذه مسألة يبدو أن الإجابة عليها في مكان آخر. حيث تم استخدامها في تغطية عملية تثبيت سعر صرف الليرة على مدى سنوات طويلة، فكيف السبيل إلى إعادتها إليهم؟ ومن يتحمل مسؤولية المصارف الخاصة التي أعطت أموال الناس إلى مصرف لبنان الذي بدوره استخدمها بأوامر من السلطة السياسية، ما أدى إلى تبخّرها؟

وحدنا نملك تقرير مصيرنا ولا نرفض مساعدة الآخرين، إنما نرفض أن يفرضوا إملاءاتهم علينا

بعد هذا كله ومن دون الدخول في التفاصيل وصلنا اليوم إلى مشاركة رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك حيث تناول موضوع النزوح السوري وخطره على لبنان، فكان رد نائبة وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند التي التقاها على هامش اجتماعات الجمعية بدعوته إلى "تفعيل التعاون مع المنظمات الدولية وخاصة مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لمعالجة ملف النزوح السوري المستجد وكل جوانب ملف النزوح".

ومن المعلوم أنّ المفوضية كانت ترفض حتى الأمس القريب التعاون مع السلطات اللبنانية ورفضت تسليمها لوائح النازحين المسجلين لديها وهي التي ترفع لواء إبقائهم في لبنان، بل وإدماجهم في المجتمعات المضيفة. لهذا تبدو هذه الدعوة وكأنها دفع للقبول بما تقرّره المفوضية في هذا الشأن، من دون اعتبار لكلّ ما أثير حول التهديد الذي يفرضه النزوح السوري على هوية لبنان وتنوّعه، ووضعه المالي والاقتصادي.

يحصل هذا كلّه والأحزاب اللبنانية لم تجد ما يوحّدها، حيث إنّها تبحث عمّا يعمّق الهوّة بينها، هي تختلف على جنس الملائكة. يخرج أحدهم ليتحدث عن خطر النزوح فإذا بالخلاف يصبح حول أول من فتح هذا الملف وحذّر منه، بل البحث عن موقف موحّد لمعالجة ذيوله ومترتّباته وسبل التصدّي له.

هي دول خارجية اختلفت في ما بينها على أي مرشح تدعم أو في أي مبادرة تسير لإقناع اللبنانيين بخياراتها، وبمعزل عن صداقتها للبنان أو مصلحتها مما يحصل، فهي تضع فيتو من هنا وعدم ممانعة من هناك، بحسب رؤيتها هي للحلّ الذي لا بدّ وأن يندرج في ما تشتهيه لهذا الوطن الصغير. أمّا لبنانياً فهناك من هو مسرور بعشاء من هنا أو مصافحة من هناك، بعدم ممانعة من هذا الطرف أو ترحيب من ذاك.

في ظلّ شغور واستقالة واستحالة التقاء، يبدو أنّنا أمام الفرصة الأخيرة ولا يوجد من يستطيع التصدّي لكلّ ما يحصل، وليقول مرة أخيرة، "أنّنا وحدنا نملك تقرير مصيرنا ولا نرفض مساعدة الآخرين إنما نرفض أن يفرضوا إملاءاتهم علينا".