حوار ينطلق من موقع مختلف عن الحوار الفرنسي الذي كان الموفد جان إيف لودريان ينتظر الردود على رسائله لتحديد موعد له، وإن لم يتّضح شكله لكنّه على الأرجح ليس الحوار الذي دعا إليه برّي

هي دعوة للحوار ولكنّها دعوة تنطلق من موقف هجومي يصف بعض من يفترض أن يشاركوا فيه بالوشاة وبأنهم يشترون الذمم واتّهامهم بأنّهم يشوهون النّصر في ملفّ التنقيب عن الغاز والنفط. هي دعوة للحوار مع أصحاب "ضمير نائم" طالما الرهان هو على صحوة ضمير. دعوة شعارها مقولة "خيّطوا بغير هالمسلّة". فهل يمكن القول فعلاً إنّها دعوة للحوار وكلّ ما قيل هو رفع السقف عالياً أم أنّ السقوف العالية مؤشّر لدفع المترددين أو المتذبذبين إلى موقف رافض متشدّد؟

تقول العصفورة أنّ الدّعوة إلى الحوار هي من باب رفع العتب، والرّهان هو على رفضها. فالحوار بصيغة رئيس مجلس النواب نبيه برّي هو حوار للتوافق على رئيس للجمهورية، ولكنّه ينطلق من موقف ثابت لا تنازل عنه بترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية للمنصب. إذاً هو حوار لتأكيد المؤكّد المعروف. لأنّه لو كان غير ذلك لما حمل هذه التوصيفات لمن يدعوهم للحوار والتوافق. فالدعوة إلى الحوار لم تحُدّد عناوين الحوار الفرعية، أو رؤيا الأطراف المتحاورة للوطن ودوره وعمل المؤسسات ومسؤولياتها، ولا الملف المالي أو الكابيتال كونترول ولا المصرف المركزي والسياسة النقدية، ولا موضوع النازحين السوريين ومخاطره على الاستقرار الوطني. كما قضية النفط والغاز التي تم الحديث عنها من باب تسجيل النقاط لا من باب الصندوق السيادي والدور في النهوض بواقع البلاد بشفافية ونزاهة. دعوة للحوار ترسم خطوط تماس بين الفرقاء لا تبني جسور تلاقي.

تقول العصفورة أنّ الدّعوة إلى الحوار هي من باب رفع العتب، والرّهان هو على رفضها

حوار ينطلق من موقع مختلف عن الحوار الفرنسي الذي كان الموفد جان إيف لودريان ينتظر الردود على رسائله لتحديد موعد له، وإن لم يتّضح شكله لكنّه على الأرجح ليس الحوار الذي دعا إليه برّي. فهل سنكون على موعد مع حوارين أم أن زيارة المبعوث الأميركي المعني بملفّي الغاز وترسيم الحدود آموس هوكشتاين أطاحت بالمبادرة الفرنسية وهو ما قد يكون برّي استشعره فقرّر تجديد الدّعوة إلى الحوار رغم أنه كان قد أعلن سابقاً أنّه لن يدعو إليه مجدّداً، لأنّه دعا للحوار مرّتين ولم يلق تجاوباً فلا مبرر لتكرار المحاولة. كما كان بري قد قال أنّه وبعد ترشيح فرنجية أصبح طرفاً فكيف لطرف أن يرعى حواراً! فما الذي تغيّر؟ وهل فعلاً أصبحت الدعوة الفرنسية للحوار بحكم المنتهية في ظلّ عدم ترحيب أعضاء الخماسية الدولية الباقين إن لم يكن معارضتهم للمبادرة الفرنسية التي يرون أنّها تنطلق من مبدأ رئاسة الجمهورية لفرنجية ورئاسة الحكومة لمن تقترحه المعارضة؟ وإنّ صحّت المعلومات هل هذا يعني أنّ برّي لديه حسابات أخرى بشأن رئاسة الجمهورية أو أنّه يعمل على إيجاد وسيلة أخرى لإيصال مرشّح الثنائي نفسه؟

يجيد رئيس البرلمان التعامل مع الظروف ويعرف كيف يستفيد منها، وهو الذي مارس السلطة منذ سنوات طويلة، كما شغل موقع رئاسة المجلس النيابي منذ العام 1992، وعايش 18 حكومة برئاسة 9 رؤساء حكومات، ويعد الرّجل الأكثر دراية بخفايا النظام اللبناني وتركيبته، وهو الذي يصحّ فيه وصف الفرقاء الآخرين "فيه الخصم والحكم". وهذا هو لبّ دعوته إلى الحوار اليوم وهذا هو مأخذ الخصوم بالتحديد. ولكنّ المجلس النيابي اليوم لا يشبه المجالس السّابقة، لم يعد وليد جنبلاط حاضراً ولا السيدة بهية الحريري، ولا الكثير ممن كان بري يخاطبهم بالاسم. في المجلس اليوم من تغيب أسماؤهم عن برّي، ولا بدّ أنّه يَحار بماذا سيناديهم، هو يشعر أنّه خارج سربه وهم يرونه بعيداً عنهم. هو آتٍ من عالم آخر، هو في السلطة آخر قادة الأحزاب التي توصّلت إلى اتفاق لإنهاء الحرب الأهلية بموجب اتفاق الطائف، هو لا يزال في موقعه القيادي الحزبي كما كان خلال الحرب، كما هو في موقع رئاسة المجلس النيابي منذ ما بعد الحرب.

تقاطع زيارة هوكشتاين مع زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان إلى بيروت مع دعوة برّي المفاجئة للحوار، تطوّرات قد تبدو غير متّصلة رغم أنّها تعيد "ترتيب" المشهد اللبناني.

عين على الجنوب برّاً وبحراً بين ترسيم حدود وتنقيب عن النفط والغاز، في ظلّ قرار مجلس الأمن التمديد لقوات اليونيفيل مع كل ما رافقه من نقاشات وتموضع وحديث عن توسيع مهام وصلاحيات، مع ما ينقل عن امتعاض من عدم وفاء الإدارة الأميركية بتسهيل انتخاب رئيس للجمهورية بعدما حصلت على مبتغاها بترسيم الحدود البحرية بما سمح لإسرائيل بالتنقيب على مقربة من الحدود اللبنانية. إن كانت هذه الحال بحراً فلا يمكن برّاً تجاهل الخيمتين المنصوبتين عند حدود بلدة الغجر السّوريّة المحتلّة.

عين على الرئاسة مع أسئلة تتصل بدور الجيش في هذه المرحلة وموقع قيادة الجيش وقائده اليوم وغداً، وما بين التجديد لليونيفيل والأحداث الأمنية المتنقّلة من صيدا إلى الكحّالة، تحضر صورة العماد جوزف عون مع الثناء على جهود الجيش اللبناني في ضبط الوضع ومنع الانزلاق إلى مواجهات غير محسوبة.

أمّا العامل الأهمّ الذي لا تزال صورته غير واضحة فهو مصير حاكمية مصرف لبنان التي تشغل أصحاب القرار أكثر من مصير الحاكم السّابق. فإن كان الحاكم سيكون من حصة طرف ما، فما الموقع الذي سيناله الطرف الآخر؟ والأطراف هنا تختلط بين محليّة وإقليميّة ودوليّة، وبالأمس كان لبنان مسرحاً حضر عليه ممثلون يؤدّون أدوارهم بامتياز.

حوار حول رئيس جديد؟ سؤال لا يملك الإجابة عليه إلّا الوقت.