أظهرتاً لجنة الميكانيزم في بيانها إثر اجتماعها الثاني في الناقورة بعد تطعيمها بمدنيَّين لرئاسة الوفدين اللبناني والاسرائيلي أن مسار التفاوض الجاري لا يشكّل مدخلاً إلى تسوية نهائية بمقدار ما يمثّل إطاراً لإدارة أزمة محكومة بتوازنات إقليمية ودولية دقيقة. فاللغة التي اعتمدها البيان الذي نشرته السفارة الأميركية، كما السياق السياسي المحيط به، يعكسان حدود الدور الذي تستطيع هذه اللجنة الاضطلاع به في ظل تصاعد الأزمات في المنطقة.
وقد تميّز البيان بلغة ديبلوماسية تقليدية، تكرّر فيها الحديث عن "خفض التصعيد" و"الحفاظ على الاستقرار" و"حماية المدنيين"، من دون أن يتضمّن أي آليات تنفيذ ملزمة أو جداول زمنية محدّدة. وهذا الغياب لم يكن تفصيلاً تقنياً، بمقدار ما كان خياراً سياسياً متعمّداً يهدف ف إلى إبقاء قنوات التفاوض مفتوحة لتجنب الانزلاق إلى مواجهة شاملة، من دون الدخول في استحقاقات الحل النهائي.
تضمن البيان أيضاً بعض التعابير التي حاكت مداورة مواضيع "التطبيع" و"اتفاق السلام" من خلال الحديث عن تناول "المفاوضين العسكريين" الجانبين الامني والاقتصادي وربط "المفاوضين المدنيين" بين العاملين الأمني والسياسي. وكرّس دور لجنة الميكانيزم قناة غير مباشرة لإدارة التوتر، لكنه تجنّب معالجة القضايا الجوهرية، وفي مقدمها الخروق الإسرائيلية المتكرّرة لاتفاق وقف إطلاق النار والتطبيق الكامل للقرار الدولي الرقم 1701، ومصير النقاط الحدودية التي تحتلها اسرائيل ولم تنسحب منها بعد. وبهذا المعنى، بدا البيان وكأنه أداة لضبط الإيقاع الميداني أكثر منه خطوة سياسية تأسيسية لحل مستدام.
ويعكس مسار الميكانيزم التفاوضي تبايناً واضحاً بين أهداف الأطراف المنخرطة فيها. فلبنان يتعامل مع هذه الآلية من موقع دفاعي، واضعاً في سلّم أولوياته تجنّب حرب مدمّرة في ظل أزماته الاقتصادية والسياسية المعقدة، وهو يرى في اللجنة مظلة دولية تقيه فرضَ إسرائيل عليه وقائع عسكرية جديدة، وتُبقي الملف ضمن مقاربة رسمية تمر عبر الحكومة اللبنانية، على رغم من محدودية أدوات الضغط المتاحة له وغياب الضمانات الدولية بتحقيق انسحاب إسرائيلي من الأراضي الجنوبية المحتلة.
وفي المقابل، تنظر إسرائيل إلى لجنة الميكانيزم كأداة احتواء للجبهة الشمالية تسمح لها بتحييدها نسبياً عن مسار الحرب في غزة، من دون تقديم تنازلات استراتيجية تمس أمنها أو هامش تحركها العسكري. ولذلك هي تسعى إلى تهدئة محسوبة تُبقي الضغط قائماً عند الحاجة، وتمنحها الوقت لإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية خصوصا في ظل استعداداتها للانتخابات وغيرها من الاستحقاقات.
أما الولايات المتحدة فتتعاطى مع مسار الميكانيزم من منظور إدارة الأزمة ومنع توسّع النزاع في الإقليم، مع إعطاء أولوية واضحة لحماية أمن إسرائيل. ولذلك فانها تدفع في اتجاه حلول مرحلية تُبقي الوضع تحت السيطرة من دون تحمّل كلفة سياسية عالية يمكن أن تفرضها تسوية نهائية.
أما فرنسا فهي كشريكة لواشنطن في ادارة لجنة الميكانيزم، تحاول أن تؤدي دور الوسيط الموازن، مستندة إلى علاقاتها التاريخية بلبنان، وساعية إلى تسويق مقاربات وسطية أو تقنية. غير أن دورها يبقى محدود التأثير، بحكم تحرّكها تحت السقف الأميركي وعدم امتلاكها أدوات ضغط حقيقية على الأطراف المعنية.
وفي ضوء هذه المعطيات لا يمكن اعتبار أن لبنان يمكنه أن يحقّق راهنا مكاسب استراتيجية من خلال هذا المسار، لكنه في الوقت نفسه يتفادى أي حرب جديدة ويبقي الملف الجنوبي تحت المظلة الأميركية والدولية، ويكسب وقتاً سياسياً في مرحلة داخلية شديدة الهشاشة.
غير أن هذا المسار التفاوضي لا يخلو من مخاطر، أبرزها تحوّل التهدئة المؤقتة حالة دائمة من اللا حرب واللا سلم، واستنزاف الجنوب بل لبنان عموما اقتصادياً وأمنياً، وتثبيت وقائع ميدانية تدريجية تصبّ في مصلحة إسرائيل، في غياب الأفق السياسي المطلوب للحل المنشود.
وتشي التطورات الجارية بأن مهمة لجنة الميكانيزم ستبقى في المدى المنظور مقتصرة على إدارة التوتر لا إنهاءه. ذلك أن أولوية الادارة الأميركية هي منع نشوب حرب جديدة يمكن أن تمتد إلى المنطقة، في حين أن تل أبيب تفضّل الاحتفاظ بهامش تصعيد مضبوط يتيح لها الضغط على "حزب الله" من دون حاجة إلى الدخول في حرب مفتوحة. ولذا يُتوقع ان تستمر سياسة الاحتواء المتبادل، بحيث تُضبط وتيرة المواجهة من دون أن تتوقف.
غير أن هذا المسار يبقى هشاً بطبيعته، ومرتبطاً ارتباطا وثيقاً بتطوّرات الوضع في قطاع غزة وبأي تحوّل في التوازنات الإقليمية، علماً أن أي حرب واسعة من شأنها أن تطيح بقواعد التهدئة الحالية، وتلغي دور لجنة "الميكانيزم". أما إذا توافرت ظروف سياسية إقليمية افضل، فقد تتحوّل اللجنة تدريجياً مدخلاً إلى تفاوض جدي وفعال حول تطبيق القرار الدولي الرقم 1701.
وفي أي حال فإن التحدي الأساسي الذي يواجه لبنان في المرحلة المقبلة لن يقتصر على الحفاظ على التهدئة فقط، بل سيتعلّق بمدى قدرته على منع تكريس هذا الإطار المؤقت أمراً واقعاً دائماً يكون بديلاً للحلّ العادل والمتوازن المطلوب. كما ان نجاحه في تعزيز موقعه التفاوضي ضمن الميكانيزم سيبقى رهنا بتوحيد مقاربته الداخلية، وتعزيز حضوره الديبلوماسي، وربط التهدئة بأفق سياسي واضح، بما يمنع تحوّل "الميكانيزم" أداة لإدارة استنزاف طويل الأمد بدلا من أن تكون خطوة على طريق تسوية مستدامة. ولبنان يريد حتى الآن أن تكون هذه التسوية على أساس اتفاقية الهدنة المعقودة في آذار 1949، من دون الدخول في أي صيغ أخرى لأن موقفه كان ولا يزال محكوماً بسقف الموقف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية والمعبر عنه بمبادرة السلام العربية لعام 2002 والتمسك بـ"حل الدولتين".
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
