خالد أبو شقرا

دفع الانهيار الاقتصادي المتواصل إلى اتباع سياسة نقدية مزدوجة المعايير: قُيّدت السحوبات من الحسابات المصرفية بالليرة اللبنانية، من جهة، وحَرّر المصرف المركزي طباعة العملة الوطنية من جهة ثانية. فكانت النتيجة، تضخّمٌ هائل بالكتلة النقدية بالليرة فاق 22 ضعفاً منذ بداية الأزمة، وتراجع قيمة الليرة بالحسابات المصرفية بنحو 25 في المئة.

أدّى هذا الواقع إلى نبذ "الليرة المصرفية"، غير النقدية، التي يجرى تبادلها بالشيكات والبطاقات الائتمانية والتحويلات المصرفية. فهبطت قيمة الشيك بالليرة بنسبة تراوحت بين 12 و25 في المئة. وتوقفت المؤسسات عن قبول التسديد بالبطاقات مسبقة الدفع. وتوسّعَ الاقتصاد النقدي cash economy بشكل هائل. وكان من شأن الاستمرار في هذا المسار تعميق الانهيار، وخسارة الليرة المزيد من قيمتها. فبرزت أصوات تطالب بإيجاد الآلية المناسبة لإعادة الليرات الموجودة في الحسابات المصرفية إلى الدورة الاقتصادية، بشكل يشجع على استخدام العملة الوطنية في التعاملات الداخلية اليومية، ولا يخلق تضخماً نتيجة "انفلاش" الكتلة النقدية بالليرة.

تراجع معدّل الحسم على شيكات الليرة

عن قصد أو بالصدفة، حصل هذا الأمر مؤخراً. إذ أظهرت أرقام المركزي "Money Supply" لغاية 23 آذار، انخفاض حجم النقد المتداول بقيمة 3054 مليار ليرة. الأمر الذي يعني "قيام مصرف لبنان بسحب كميات من الليرة اللبنانية الورقية من التداول، ما يفسح المجال في حال إعادة ضخها في الحسابات بالليرة، بتسييل هذه الحسابات وفسح المجال أمام المودعين لاستعمالها"، يقول النائب مارك ضو، و"ستؤدي هذه الآلية إلى إمكانية تحرير كامل العملة اللبنانية الموجودة بالحسابات المصرفية رقمياً (أي عبر البطاقات والشيكات) وبالتالي تحرير حسابات الليرة من بعد تجميدها منذ 17 تشرين الاول 2019". وبالفعل شهدنا مؤخراً على تقارب بين قيمة الليرة في التداول وتلك الموضوعة في الحسابات البنكية. حيث انخفض معدل الحسم على شيكات الليرة من حدود 20 و25 في المئة إلى 5 في المئة راهناً. و"هذا ما يؤشر بحسب ضو "إلى استعداد العودة إلى التعامل بالليرة من جديد، في حال تسييل تلك الحسابات. الأمر الذي من شأنه تأمين درجة من الحماية لليرة اللبنانية، وتحسين شروط التداول بها بين الأفراد والشركات والمصارف والدولة".

الاستفادة من فرصة امتصاص المركزي فائض السيولة، "يجب أن تستمر"، برأى ضو فـ "الكتلة النقدية بالليرة M1، يظهر لغاية الآن أنّها آخذة بالتوسّع والازدياد من أجل تمويل عجز الدولة ونفقاتها المتزايدة من جهة، وتلبيةً لليلرة الودائع الدولارية (تسديد الودائع الدولارية بالليرة اللبنانية على أساس سعر صرف 15 ألف ليرة، بحسب التعميمين 151 و158) من جهة ثانية. وما لم يعطَ أصحاب المؤسسات الذين يتقاضون الأموال عبر مكنات الدفع الألكتروني POS ضمانات بإمكانية استخدام هذه الأموال التي تتجمع في الحسابات المصرفية، بطريقة عملية، ستبقى هذه الآلية معطلة. فلسان حال أصحاب المؤسسات من سوبرماركت، ومحطات ومستشفيات ومختبرات وغيرها من القطاعات، أنّهم ليس لديهم مشكلة بقبول البطاقات شرط السماح لها استخدام هذه الأموال في تسديد نفقاتها، ولاسيما الضرائب والرسوم والجمارك وبقية الأمور. "فإذا سُمِح للقطاعات التجارية والخدماتية استخدام الليرات المتأتية من المدفوعات إلكترونياً، نكون نشجّع على التداول بالليرة اللبنانية، وبالتالي زيادة سرعة استخامها ما ينعكس إيجابا على قيمتها أولا وعلى تراجع التضخم من جهة ثانية وتقليص الحاجة إلى الطباعة ثالثا"، يقول ضو. فسرعة التداول العالية للمال عموماً تعني اقتصاد صحي ومتوسع، وتخفّض الحاجة إلى طباعة الليرات من قبل المركزي بالوتيرة السريعة نفسها. فيما تباطؤ سرعة التداول يعني أنّ كل الليرات المطبوعة تتحول فوراً إلى الدولار ولا يجدي التداول بها ما يحتّم طباعة المزيد من الأموال وعدم الخروج من الحلقة المفرغة".

محاذير "سرعة المال" في ظل تضخم الكتلة النقدية

في العادة تتحكم معادلة المبادلة الاقتصادية M.V=P.Q بالناتج الاقتصادي ومستويات التضخم. وبعبارات أوضح فإن حجم الكتلة النقديةM × سرعة تداول النقودV   = مستوى أسعار المنتجات P × كمية البضائع المباعة Q . وعليه أن أي تأثير، "على حجم الأموال (الليرات المطبوعة) أي M في ظل بقاء بقية مؤشرات المعادلة على حالها، سيهبط بالناتج المحلي بنسب كبيرة ويزيد الانكماش الاقتصادي. في حين أن زيادة سرعة النقود في ظل التوسع بالكتلة النقدية بالليرة ينعكس إيجابا على النمو، إنما يرتد سلباً على ارتفاع الأسعار وبالتالي التضخم". وعليه يعتبر مصدر اقتصادي أنّ الأهم من تسريع دورة الليرات، هو تخفيض الكتلة النقدية بالليرة M1، أو ما يعني الضغط على مصرف لبنان من أجل وقف طباعة الأموال بالتوازي مع تسريع دوران النقود. وهو ما ينعكس في هذه الحالة إيجاباً على الاقتصاد.

مخاطر الطباعة المحدقة

لعل النتائج المحققة سلفاً نتيجة امتصاص كميات من السيولة بالليرة، سيقوّضها الاتجاه نحو زيادة رواتب العاملين في القطاع العام بكلفة تقدر بحوالي 70 ألف مليار ليرة سنوياً. وفي ظل عجز الدولة عن تمويل هذه الزيادة من خلال الإيرادات نتيجة الإضرابات من جهة، وتوسّع الاقتصاد الأسود وضعف المراقبة من الجهة الثانية، فإن هذه الزيادة ستموّل من طباعة النقود. وستؤدّي بالتالي إلى زيادة هائلة بالكتلة النقدية بالليرة اللبنانية. ما سيحتّم العودة إلى التشدّد بتقييد الحسابات البنكية بالليرة. وسيرتد سلباً على قيمة الليرة "المحتجزة" أولاً، وعلى مصالح آلاف الأفراد والمؤسسات ثانياً.

يقدّر حجم الليرات الموجودة في الحسابات البنكية بنحو 30 مليار دولار، وبقيمة تبلغ 450 ألف مليار ليرة، إذا جرى احتسابها على أساس 15 ألف ليرة للدولار. وهو رقم ضخم جداً، يحتّم على السلطة النّقديّة الاستمرار في تقييده، طالما مطبعة الليرات تعمل على مدار "الليل والنهار". وعليه تتطلب المعالجات الجذرية العودة إلى الأسس العلمية، والضغط على مصرف لبنان من خلال القوانين لوقف طباعة الليرات، التي تعتبر مصدر الخطر الأكبر على الاقتصاد. تداعيات مثل هذا الإجراء لا تنعكس إيجاباً على الوضع النقدي وسعر صرف الدولار فحسب، إنما قد تكون المدخل الإلزامي الذي يجبر الدولة على إصلاح القطاع العام "المنفلش" والذي يعاني من تراجع الانتاجية ونسب هدر كبيرة. وبذلك تكون هذه السياسة قد أصابت عصفوري تحرير حسابات الليرة واستعادة الثقة بالعملة الوطنية بحجر وقف الطباعة الواحد.