لعلّ هذه الكلمات الأربع "سلام لبنان مع جيرانه" من خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الرياض تختصر المسار الذي يتمّ رسمه لمستقبل لبنان في إطار ثنائية "الاستقرار والازدهار" التي تنعقد حولها الإرادتان العربية والدولية بقيادة الثنائي التاريخي الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية.

وفي هذا الاتجاه السلمي الواسع والحاسم لحلّ معضلات ونزاعات الشرق الأوسط لا يعود هناك معنى أو قيمة للمقولة القديمة المتجددة "لبنان آخر من يطبّع ويوقّع"، طالما أن المنطقة برمّتها، بما فيها إيران، ذاهبة بخطىً واثقة نحو عهد جديد يطوي مرحلة الحروب والصراعات الدموية، سواء داخل دولها أو في ما بينها.

وقد بدأت إرهاصات هذا التحوّل الكبير بالظهور من خلال مؤشّرَين على الأقل: إحتواء الخطر الحوثي في البحر الأحمر وباب المندب على حركة التجارة البحرية بقرار إيراني وضغط عسكري أميركي، وتباين أجندات ترامب ومخطط نتنياهو المتعدد الجبهات والمتراكم التعقيدات.

هذا التباين كان مقدّراً قبل عودة ترامب إلى الرئاسة الأميركية وبعدها، بحيث لا تحتمل الإدارة الأميركية الجموح الحربي لرئيس الحكومة الإسرائيلية الذي يهدد إستراتيجية ترامب المعلنة في إنهاء الحروب الإقليمية والدولية وتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية في المنطقة.

وليس تفصيلاً أن ترفع واشنطن العقوبات عن سوريا بطلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع انعقاد اللقاء بين ترامب والرئيس السوري أحمد الشرع والقمة الخليجية الأميركية، بما يعني ذلك من لجم الضغوط الإسرائيلية على الحكم الجديد في دمشق.

والواضح أن الاتفاقات الإبراهيمية العتيدة، والتي ستشمل السعودية (بالتوقيت الذي تراه) وكذلك سوريا، لا يمكن أن تكون بشروط نتنياهو وحده أو أي خليفة له، بل أيضاً بالشروط العربية، خصوصاً بالنسبة إلى قيام دولة فلسطينية بعد إعادة ترتيب وضع السلطة الشرعية وطي الصفحة العسكرية لـ "حركة حماس". وهذا ما توقّعناه غداة اندلاع " طوفان الأقصى" الفلسطيني وفرعه اللبناني "الإسناد"، وردّدنا مراراً أن فرصة الحل تبدأ من لحظة الإنهاك المزدوج لأطراف الحربَين.

في هذا السياق يأتي "سلام لبنان مع جيرانه" كحلقة من حلقات هذه الاتفاقات، فلا يمكن تصوّر الاتفاق على إجراءات ميدانية وسياسية بين دمشق وتل أبيب برعاية أميركية سعودية ويبقى لبنان خارجها، وهو يشكّل الضلع الثالث بين جارتَيه، فالمسألة لم تعُد مَن يطبّع أولاً بل مَن يكون حاضراً إلى الطاولة لتثبيت حقوقه وترسيم حدوده مع هاتَين الجارتَين، من خط الناقورة - مزارع شبعا - سفوح حرمون إلى السلسلة الشرقية والشمال.

وهنا يبرز التحدّي أمام "حزب الله" بحيث لا يكون خارج هذا السياق، خصوصاً أن إيران نفسها بدأت تنخرط فيه عبر مفاوضاتها مع واشنطن وترشيدها الذراع الحوثية بعد العراقية. واللافت أن خطاب "الحزب" بدأ ينحسر عن عقيرته العالية، فغابت عن الخطاب الأخير لأمينه العام الشيخ نعيم قاسم مقولة "قطع اليد التي تمتد إلى السلاح"، واستُبدلت بمقولة "الشراكة مع العهد وبناء الدولة".

و"الشراكة مع العهد" تعني حُكماً التزام عنوانه الأبرز "حصر السلاح في يد الدولة"، وليس بقاء ازدواجية الندّين العسكريَّين، كما أن بناء المؤسسات يعني تصفية كل المؤسسات الرديفة غير الشرعية، سواء كانت عسكرية أو أمنيّة أو مالية. ولا يخفى أن هذا الأمر لا مفر منه ولا خيار سواه ضمن المسار غير المرتد نحو السلام، وبعد فشل الأحلاف الحربية وتفكُّك حلقات "محور الممانعة والمقاومة" و"وحدة الساحات".

ولا شك في أن لـ "حزب الله" والبيئة الشيعية المناصرة له مصلحة في السلام مع سوريا الجديدة المتجهة إلى توافقات مع إسرائيل بدفع أميركي خليجي (وتركي) وتسليم إيراني، وعملاً بنهج الواقعية السياسية التي تفرض نفسها على الوضع اللبناني بسائر مكوّناته.

طبيعي أن يكون هذا المسار محفوفاً بالشروط والعقبات، فلا يتمّ بين ليلة وضحاها، لكنّه يشكّل واقعياً قدَرَ المنطقة ومستقبلها، وثمرة وعي الواقع، واعتماد منطق الممكن لا المستحيل، بغض النظر عمّا إذا كانت ستطرأ تعديلات جيوسياسية على خرائط "سايكس - بيكو" أم لا.

وليس غريباً أن تتغلّب البراغماتية الإيرانية على المشروع الإمبراطوري الذي شغل طهران وأتعبها منذ 46 عاماً، فهي أيضاً تنوء تحت ثقل إخفاقاتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، وتسعى إلى الحدّ من الخسائر والتضييق والعقوبات، ومن مصلحتها أن تلتزم ثنائية "الاستقرار والازدهار"، على أن تنتقل عدوى عقلانيتها إلى وكيلها في لبنان، فينضوي تحت لواء الدولة بشروطها الشرعية وليس بـ "الشراكة المسلّحة".