إذا وضعنا العلاقة الاقتصادية بين لبنان وسوريا في ميزان عملاق، لاسيما من بعد بَدء الأحداث في العام 2011، فلمن ستميل الكفة؟ "الوزنة" الصعبة التقدير، يقابلها إبهام أكبر عن التداعيات المالية والاقتصادية على لبنان فيما لو رفعت العقوبات عن سوريا وبدأت فعليا عملية إعادة الإعمار. فأن تَخفَف لبنان من حمل مليوني نازح، فهو سيخسر المصدر الأساسي للعمالة الرخيصة، ولاسيما في البناء والزراعة والصناعة ومنها بشكل أساسي صناعة الرغيف. وإن تراجع الضغط على العملة الصعبة، ستتراجع حركة الاستيراد والتصدير، وبالتالي الموانئ التي كانت تعمل بجزء كبير منها لصالح سوريا بشكل مباشر أو غير مباشر. وإن فتحت فرص الاستثمار المالي في سوريا، فان مصارف لبنان معطلة وليس من بوادر جدية بإمكانية إشراك مؤسساته في عملية النهوض.
بجملة مباشرة في خطابه الطويل من المملكة العربية السعودية أعاد الرئيس الاميركي دونالد ترامب خلط "ورق شدة" علاقات دول المنطقة، بخفة الساحر المحترف. فأعلن أنه سيأمر برفع العقوبات عن سوريا لمنحها فرصة للتألق. متمنياً لها "حظاً سعيداً". ومطالباً إياها بإظهار شيئاً مميزاً للغاية". ولم يلبث ترامب أن أنهى جملته، حتى عامت على وجه التحليلات محلياً كيفية استفادة لبنان من القرار، بدءاً من عودة النازحين، مروراً بتيسير وصول الغاز المصري والكهرباء الأردنية، وصولاً إلى تحرير عمل الشركات المستثمرة في شتى القطاعات المالية والسياحية والعقارية وحتى التجارية.
أنواع العقوبات على سوريا
سكرة الوعود برفع العقوبات لم تلبث أن تبددت ليحل محلها فكرة التطبيق على أرض الواقع. وهو ما دفع بالكاتب الاقتصادي السوري يونس الكريم للسؤال: إن كانت العقوبات قد رفعت فعلياً عن سوريا، الا أنها "لا تنحصر بما فـُرض على النظام السابق، وفي مقدمتها قانون قيصر، إنما هناك عقوبات على النظام الحالي من قبل مجلس الأمن الدولي".
إضافة إلى عقوبات مجلس الامن، هناك العقوبات الدولية الأحادية المفروضة من الدول أو اتحاداتها، مثل العقوبات الأوروبية التي تم تعليق العديد منها في سياق إعادة النظر في سياساتها تجاه سوريا بما يتماشى مع الظروف الإنسانية والاقتصادية الراهنة.
وإلى جانبها، هناك العقوبات الاميركية، وهي التي تعنينا من وعد الرئيس ترمب، والتي تنقسم بحسب يونس الكريم إلى قسمين:
- الاول، أوامر تنفيذية رئاسية (العقوبات الثانوية)، يمكن رفعها من الرئيس مباشرة.
- الثاني، التشريعات التي يقرها الكونغرس: مثل قانون "قيصر" الصادر في العام 2019 ويمكن للرئيس تعليقها لمدة ستة أشهر + 120 يوم بتعليل، وفق المادة 401. ولكن لا يمكن إلغاؤها من طرفه نظراً لكونها تتطلب تشريعاً مقراً بالكونغرس.
هل يستفيد لبنان من رفع العقوبات حقاً؟
على صعيد الطاقة
استفادة لبنان، حتى مع التسليم جدلاً برفع العقوبات كلياً، ستكون محدودة للعديد من الأسباب، أهمها عدم إنجاز الإصلاحات في قطاع الطاقة لتسهيل مبادرة البنك الدولي باستجرار الغاز المصري إلى معمل دير عمار، والكهرباء من الاردن بقدرة تصل إلى 300 ميغاواط عبر سوريا. إهمال معالجة الهدر الكبير في الكهرباء، وعدم تشكيل الهيئة الناظمة كانا العائقين الأساسيين أمام هذا المشروع الذي أبصر النور في العام 2022 بمبادرة أميركية. وهو ما سينسحب ايضاً على المشروع المقترح باحياء خط "تابلاين" لإيصال نفط حقول كركوك النفطية عبر سوريا إلى سواحل المتوسط شمال لبنان وتكريرره في مصفاة دير عمار بعد تأهيلها. وعلى الرغم من سهولة وصول الكهرباء عبر الربط الخماسي العربي إلى لبنان، فهي ستخضع بحسب الكريم إلى شروط مفاوضات جديدة مع الدولة السورية.
على صعيد المرافئ
رفع العقوبات عن سوريا يعني بحسب يونس الكريم "الاستغناء عن مرفأ بيروت ومطارها للنقل واستيراد البضائع لصالح سوريا، لاسيما بعد عودة مرفئي طرطوس واللاذقية إلى العمل، وإعادة تأهيل وافتتاح المطارات السورية". وسيدفع هذا الواقع إلى عودة الميزان التجاري بين لبنان وسوريا إلى العجز من جديد. وذلك بعدما حقق بحسب إحصاءات دليل الصادرات والمؤسسات الصناعية اللبنانية منذ العام 2016 ولغاية اذار 2025 فائضا لمصلحة لبنان بأكثر من نصف مليار دولار. إذ أكدت احصاءات الدليل انه بحسب سجلات الجمارك اللبنانية خلال الفترة المذكورة ان سورية تبوأت المرتبة الأولى في الاستيراد من لبنان حيث استوردت منه بقيمة 1.584.402 مليار دولار مقابل حجم صادرات الى لبنان بلغ 1.073.697 مليار دولار. وهو الأمر الذي سيرتد سلباً أيضا على ميزان المدفوعات ويفاقم العجز في الحساب الجاري.
على الصعيد المالي
مالياً فان رفع العقوبات سيتيح لسوريا العودة إلى جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك "سويفت" SWIFT، ما يحرم المصارف والشركات المالية اللبنانية من تدفق السيولة التي تتقاضى عليها عمولات كبيرة وتشكل مصدراً أساسياً للدخل. أما عودة المصارف ذات المُساهمة اللبنانية (أقل من 50 في المئة) والحاملة أسماء العلامات التجارية اللبنانية، والتي وصل عددها في الفترة الممتدة بين 2005 و 2020 إلى 7 مصارف، لاستئناف عملها في السوق السوري بعدما انسحبت منه بشكل شبه كلي بعد العام 2020، فلن تكون معبدة بالسجاد الاحمر. والسبب افتقاد المصارف "الأم" إلى السيولة والثقة، مضافاً إليها تعقيدات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لتبييض الأموال من قبل مجموعة العمل المالي.
على صعيدي اليد العاملة والقطاعات الإنتاجية
التأثير الأكبر لرفع العقوبات سيبقى على القطاعات الإنتاجية والخدماتية، ولاسيما منها الزراعية والصناعية وتلك التي تتصل بالبناء. اليد العاملة السورية تشكل النسبة الأكبر من العمالة في هذه القطاعات وتمتاز بقدرتها على التحمل وأجورها المتدنية قياساً إلى ما يطلبه العامل اللبناني. وقد أظهر اعتكاف العمال السوريون عن القدوم إلى أعمالهم خوفاً من الملاحقة والترحيل عقب الحملة التي أطلقتها الحكومة اللبنانية في العام 2024 ضد العمالة السورية غير المنظمة، تضرر الكثير من القطاعات، ولاسيما منها الزراعية.
متى سيتم رفع العقوبات؟
على ضوء التجارب السابقة، فإن الرفع الفعلي للعقوبات يتطلب وقتاً طويلاً. ولكن مما لا شك فيه أن رفعها مهم جداً من كل النواحي الاقتصادي والسياسية والاجتماعية وحتى الانسانية، إلا ان قدرة لبنان على الاستفادة منها تبقى رهن تحقيق الاصلاحات الداخلية. وإلا فان لبنان الملقب بـ "ملك فرص الضائعة"، سيفوت فرصة الاستفادة من التطورات الإقليمية مرة جديدة وينظر "بتشاؤل" إلى رفع العقوبات عن سوريا.