خالد أبو شقرا

تتساقط المساعدات "الإنسانية" على لبنان منذ العام 2011، تاريخ بدء النزوح السوري. لا نِسَب الفقر تراجعت، ولا أعداد الجَوعى قلّت. صَدَقات (جمع صدقة)، تدخل من باب المنظمات الدولية والجمعيات غير الحكومية، تغدق على القاطنين بـ "سمكة"، تشبع الحاجات الآنية، و"تقتصد" بإعطائهم "صنّارة" الحلول الجوهرية. فيغيب "التضامن الأفقي الذي يساعد"، على حد قول الكاتب والصحافي من الأوروغواي إدواردو جاليانو، وتبقى المساعدات كـ "صدقة عمودية" أقرب إلى "المذلّة ".

كان إعلان مفوض الاتحاد الاوروبي لإدارة الازمات يانيز ليناتشتش "تقديم مساعدات بقيمة 60 مليون دولار"، ليمر بكثير من الامتنان، لولا تذييل البيان بالتذكير بمؤتمر بروكسل، الذي "سيكون بالأهمية بمكان لضمان استجابة مجدية في لبنان". فهل يكون أحد الأهداف الجانبية للمساعدات، تأجيل البحث بقضية النازحين السوريين. مع الوعد بمساعدات أكبر في المؤتمر السابع المخصص لدعم مستقبل سوريا والمنطقة الذي تستضيفه بروكسل في 14- 15 حزيران القادم؟

المسؤولية لبنانية

يأخذ قسماً من المسؤولين اللبنانيين على الجهات الدولية عدم العمل بفعالية لإعادة النازحين السوريين إلى بلادهم. وهم يعتبرون أن مطالب إدماج النازحين بالمجتمعات المضيفة، وتوفير فرص العمل، وتأمين شروط الحياة اللائقة من مسكن ومأكل ومشرب وصحّة وتعليم... ما هي إلا مقدّمات للتوطين. المواقف "الحماسية"، المنطلقة من مخاوف سياسية واجتماعية، يقابلها ثلاث حقائق أساسية:

أولى هذه الحقائق أن "من يعرقل عودة النازحين الذين لا يستوفوا شروط اللجوء السياسي هي السلطة اللبنانية نفسها، متمثلة بالحكومة"، يقول عضو تكتل الجمهورية القوية النائب د. رازي الحاج. فعندما يكون هناك مشكلة بهذا الحجم الضخم، سواء على مستوى امتدادها الزمني أو انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا نرى خطة تنفيذية واحدة عملية شفافة وصادقة، تكون الحكومة من يعمّق المشكلة وليس المجتمع الدولي".

فمن المفترض بالحكومة برأي الحاج تطبيق اجراءات تنظيم اللجوء. فتميّز العمالة السورية التي ينطبق عليها قانون العمل، ويفرض دخولها شرعياً، وحيازتها على إجازة عمل وتسديدها المتوجب عليها من ضرائب ورسوم، أسوة بكل العمالة الأجنبية. ويحدد النازحين الذين يدخلون إلى سوريا ويعودون منها، أقلّه من المنافذ الشرعية. فتسقط تلقائياً عن هاتين الفئتين صفة اللجوء. ولا يبقى فعلياً إلا اللاجئين الحقيقيين، الذين من المتوقع أن تكون أعدادهم أقل كثير. وعلى هذه الفئة الأخيرة يجب أن تتركز ساعتذاك المفاوضات مع الجانب السوري والمجتمع الدولي للاتفاق على مقاربة العودة. بخلاف ذلك يؤكد الحاج أن "أي مساعدة تأتي من المجتمع الدولي للمجتمعات المضيفة، مطلوبة، وهي تساعد على التخفيف من حدّة الازمة التي يعانيها لبنان".

التنفيذ أولاً

ما يقوله النائب رازي الحاج سبق لوزارة المهجرين أن وضعته بخطة متكاملة عرضتها قبل نحو عام على الجانب السوري والحكومة اللبنانية. وقد جرى وقتها تكليف وزير الداخلية إصدار قرارات تلزم السوري بتطبيق قانون الإقامة، والاستحصال على إجازة عمل للمهن الحرّة، والحصول على ترخيص لفتح محلات تجارية أو مؤسسات... إلا أنّ أياً من هذه الشروط لم يطبّق لغاية اليوم. ولم نشهد إلّا شعبوية "ابتزازية"، بلغت مداها في خطاب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عند إطلاق "خطة لبنان للاستجابة للأزمة لعام 2022-2023"، عندما دعا "المجتمع الدولي إلى التعاون مع لبنان لإعادة النازحين السوريين إلى بلدهم، وإلا فسيكون للبنان موقف ليس مستحباًّ على دول الغرب، وهو العمل على إخراج السوريين من لبنان بالطرق القانونية، من خلال تطبيق القوانين اللبنانية بحزم". فأين هو الحزم؟!

المقاييس الانسانية

ثاني الحقائق تفيد بأن ما تطلبه منظمات المجتمع الدولي لجهة توفير الحياة اللائقة هو معياري، ينطلق مما تفرضه شرعة حقوق الانسان، وتؤكّد عليه الأهداف الإنمائية للألفية التي أقرّتها الأمم المتحدة. وهي تحرص أيضاً على توفير شرطي العودة اللائقة والآمنة إلى سوريا.

النازحون والنظام

أما ثالث هذه الحقائق، وأَمَرّها، فهي تناقض أفعال النظام السوري، مع أقواله المرحّبة بعودة النازحين. إذ من المطلوب إعطاء ضمانات جدية للعائدين منها:

  • الإعفاء من التجنيد الاجباري أو تأجيله لفترة زمنية.
  • إرجاع البيوت والعقارات المصادرة.
  • إصدار مراسيم العفو الرئاسية.
  • تسهيل استخراج الوثائق المفقودة وتسجيل الولادات.
  • معالجة مشاكل المهجرين المغادرين بشكل غير شرعي وتسوية أوضاعهم.
  • تأمين مراكز إيواء جَماعي.
  • ترميم المدارس.
  • تأهيل شبكات مياه الشرب والصرف الصحي.
  • تقديم التعويضات للمنازل المتضررة.
  • تأهيل محطات الكهرباء.
  • إنشاء محطات جديدة.

مع العلم أن هذه المطالب كلّها لم يتحقق منها إلا النذير.

 الأزمة تتفاقم

الجانب السياسي المعقّد والمتشابك لأزمة النازحين، لا يلغي الواقع الإنساني المتدهور والخطير في لبنان. فبحسب بيان المفوّض ليناتشتش يحتاج حوالي أربعة ملايين شخص، من بينهم 1.5 مليون نازح سوري و2.2 مليون لبناني من الفئات الضعيفة، إلى مساعدات إنسانية". كما "يقدّر أن 80 في المئة من اللبنانيين يعيشون في الفقر، وأن 36 في المائة يعيشون تحت خط الفقر المدقع، في حين أن 90 في المئة من اللاجئين السوريين لا يستطيعون تغطية احتياجاتهم الأساسية". الأخطر من هذه المعلومات هو "غياب الفعالية الحكومية في مواجهة الأزمات البنيوية"، تقول فرح الشامي، زميلة رئيسية ومديرة برنامج الحماية الاجتماعية في مبادرة الإصلاح العربي. "وطالما لا توجد إصلاحات جوهرية في السياسة النقدية، خصوصاً لجهة سعر الصرف الذي يؤثر على الأسعار والأجور، طالما معدلات الفقر، الحرمان واللامساواة سترتفع باضطراد".

التوزيع غير العادل للثروة

تشريع الباب منذ ثلاث سنوات أمام تعدد أسعار الصرف، أصاب لبنان بأسوأ ما قد يصيب الاقتصاديات في أوقات الأزمات المتفلّتة: "التوزيع غير العادل للثروات"، برأي الشامي. "حيث دفعت السياسات النقدية إلى انتقال الثروات من عموم المواطنين، إلى فئة قليلة من المحتكرين والمضاربين والاغنياء الجدد الذين أثروا على كتف الشعب اللبناني". وعليه تبقى المساعدات المالية، غير كافية مهما عظمت. وقد وصلت على سبيل الذكر لا الحصر، قيمة التقديمات من الاتحاد الاوروبي وحده منذ العام 2011 إلى حوالي 860 مليون يورو.  يضاف إلى هذا الواقع أن مقاربة الجهات المساعدة تعتبر "منافية"، بحسب الشامي. فـ "المساعدات النقدية، وإن كانت تقدّم بنيّة طيّبة، فهي تبقى آنية ومؤقتة ولا تحقق هدف الحماية الاجتماعية. فيما لا تلبّي المساعدات العينية المتطلبات الحقيقية للأسر والأفراد".

مستهدفة بالأقوال لا بالأفعال

من سلبيات المساعدات في ظل هذا المستوى من الفقر والحرمان هو أن "استهدافها لفئات محددة، يؤدي إلى إقصاء فئات اجتماعية أخرى"، من وجهة نظر الشامي. "فهي تفترض استهداف الفئات الأكثر ضعفا وهشاشة وفقراً من حيث المبدأ، فيما يحرم على أرض الواقع نسبة كبيرة من المحتاجين نظراً لعدم توفر "سجل قومي اجتماعي موحد". الامر الذي يؤثر على معايير تصنيف الفئات الاجتماعية للمساعدات، فيتم إقصاء الفئات الأكثر حاجة المتواجدين في مناطق الأطراف، والذين يفتقدون إلى إمكانية التواصل مع الجهات المانحة". كما يسجل بحسب الشامي، "غياب التنسيق بين برامج المساعدات المتنوعة. حيث يستفيد البعض، من غير وجه حق، من أكثر من برنامج، فيما يحرم آخرون. الأمر الذي يتسبب بالمزيد من التوتر بين الجماعات المستهدفة".

لم يغب عن بال لينارتشيتش وجوب معالجة جذور الأزمات السياسية والإقتصادية في أقرب وقت ممكن. وقد اعترف بأن "المساعدات الإنسانية ضرورية لضحايا الأزمات المتعددة في لبنان، لكنها ليست حلاً للتحدّيات الكامنة". ولعل هذا ما يتماشى مع قول البابا فرنسيس "الصّدَقة التي لا تغير من وضع الفقراء لا تكفي".