خالد أبو شقرا

لا شبيه للزيادات التي تقرّ على أجور مستخدمي القطاع الخاص في حمأة الانهيار، إلّا الوقت كما تقول عنه لروائية أحلام مستغانمي "الوقت: يركض، يقطع، يسرع... فما نكاد نصل إلّا ويكون قد رحل". يتجاوز ارتفاع الأسعار بأشواط كل الإضافات المنوي إعطاؤها. وما "يزيد طين" انهيار القيمة الشرائية "بلة"، هو فقدان الجهات التقريرية لعنصر المباغتة. حيث يفصُل بين تاريخ أخذ القرار برفع الرواتب ووضعه موضع التنفيذ، عشرات الأيام والأسابيع، فـ "يبتلع" التضخم الزيادات، ونعود إلى النقطة صفر من أولٍ وجديد.

بتاريخ 13 كانون الثاني 2023، أقرّت لجنة المؤشر رفع الحد الأدنى لأجور القطاع الخاص من مليونين و600 ألف ليرة، إلى أربعة ملايين ونصف المليون ليرةٍ لبنانية. وزادت بدل النقل إلى 125 ألف ليرة، وضاعفت المنح المدرسية والتعويضات العائلية. وبغضّ النّظر عن القيمة الهزيلة للزيادة، فقد فقدت من تاريخ إقرارها ولغاية اليوم 57 في المئة من قيمتها. ففي غضون الفترة المنصرمة ارتفع سعر صرف الدولار من 48 ألف ليرة إلى حدود 112 ألف ليرة. وأصبح الحد الأدنى للأجور أقلّ مما كان عليه قبل رفعه. فالمليونين و600 ألف ليرة كانت تعادل 54 دولاراً على سعر صرف 48 ألف ليرة. فيما الأربعة ملاين و500 ألف ليرة تعادل 40 دولاراً على سعر صرف 110 آلاف ليرة. فأي رفع للحد الأدنى للأجور هو هذا الذي يخفض القيمة الشرائية بدلاً من أن يزيدها!

العودة إلى لجنة المؤشر

التأخّر في وضع الزيادة موضع التنفيذ يعود بحسب ممثل الجامعة اللبنانية في لجنة المؤشر الدكتور أنيس بودياب إلى "عدم إقرار الزيادة في مجلس الوزراء منذ الاتفاق عليها في منتصف كانون الثاني الفائت". وكان من المفترض أن تقرّ الحكومة هذه الزيادة مطلع الأسبوع الحالي، في الجلسة المخصصة لإقرار حوافز الإنتاج ورفع بدل النقل لموظفي القطاع العام. أما وقد تأجّلت الجلسة الحكومية إلى أمدٍ غير منظور، "فقررنا العودة إلى لجنة المؤشر لإعادة البحث بالزيادات على الرواتب وبدل النقل، بما يتناسب مع نسب التضخم والغلاء في الأسعار، ورفعها معدّلة إلى مقام مجلس الوزراء"، يقول بودياب. "فزيادات الأمس لم تعد تصح اليوم".

أصاب العمل منفتحون على إعطاء زيادات

وبالفعل تعقد لجنة المؤشر اجتماعها يوم غد الخميس برئاسة وزير العمل وممثلي فريق الإنتاج وأصحاب العمل. وبحسب ما رشح من معطيات فإنّ أصحاب العمل منفتحون على إعطاء المزيد من الزيادات على الحد الأدنى للأجور. "وجزءاً كبيراً منهم أعطى الزيادة المقرة على الحد الأدنى، أي 4.5 مليون ليرة، المقرّة قبل نحو الشهرين ونصف الشهر، ولو لم تصدر بشكل رسمي"، يفيد أحد أصحاب العمل. "أما في ما يتعلّق بحجم الزيادة وقيمتها، ففضّل التريّث بإعطاء الجواب الحاسم، وعدم استباق الأمور و"التشويش" على الاجتماع. مضيفاً "همّنا كلنا إنصاف العمال واستمرار المؤسسات ونمو الاقتصاد".

9 ملايين ليرة؟

من جهة ممثلي العمال تشير المعلومات إلى أنّ الرقم الذي قد يتفق عليه هو 9 ملايين ليرة للحد الأدنى للأجور، و250 ألف ليرة لبدل النقل. ذلك مع العلم أنّ الدخل يجب ألا يتدنى عن 50 مليون ليرة، أو ما يعادل 450 دولاراً، كما كان معمولاً به قبل الأزمة، في أقلّ الإيمان. فمعظم السلع والمنتجات تباع اليوم بالدولار أو بالليرة على سعر صرف السوق، والقسم الأكبر من أصحاب العمل يحققون نفس نسبة الأرباح المحققة قبل سنوات الأزمة. وعليه لا مبرّر لإبقاء رواتب الأجراء والمستخدمين متدنية بهذا الشكل.

التضخم أسرع من الزيادات

المفارقة أن الأجور في القطاع الخاص الذي ظلّت ثابتة على رقم 675 ألف ليرة منذ العام 2012، لم يوقظها الانهيار. فالتعديل الأول دخل عليها في نهاية أيار من العام 2022، حيث جرى رفعها بقيمة مليون و325 ألف ليرة، إلى مليوني ليرة. وبعد أقل من شهر، وتحديداً في تموز، رُفع الحد الأدنى مرة جديدة إلى مليونين و600 ألف ليرة. إلا أنه في الحالتين لم يتجاوز الحد الأدنى للأجور المقيّم بالدولار عتبة 90 دولاراً وقت إقراره، ليعود وينخفض سريعاً مع ارتفاع سعر صرف الدولار. وعليه فإن اعتماد رقم 9 ملايين ليرة للحد الأدنى للأجور راهناً، يعادل 81 دولاراً على سعر صرف 110 آلاف ليرة للدولار في السوق السوداء. ولن يلبث أن ينخفض مع التوقع بارتفاع سعر صرف الدولار.

يظهر من التجربة أن الحد الأدنى للأجور سيتغير باستمرار مع تغيّر سعر صرف الدولار، على أن يبقى يتراوح بين 80 و90 دولاراً. وبذلك يكون الحد الأدنى قد خسر نتيجة الأزمة حوالي 80 في المئة، أو خمس قيمته.