خالد أبو شقرا

دفعت "اللامعالجات" الاقتصادية، المالية والنقدية إلى تحويل سعر صرف الليرة اللبنانية إلى رباط مطاطي، "مغيطة". كلما جذبناه قسراً إلى الخلف، عاد وارتد إلى الأمام متخطياً الحدّ الأعلى الذي كان عنده سابقاً. وعلى هذا المنوال تذبذب سعر صرف الليرة انخفاضاً من 1500 ليرة في نهاية العام 2019، إلى حدود 150 ألفاً في صباح يوم أمس. وكالعادة تدخّل "المركزي" شارياً لليرات وبائعاً للدولار، فارتفع سعر الصرف إلى 110 آلاف ليرة، وتحولت الانظار إلى الفترة الزمنية التي سيصمد بها هذا الاجراء.

بيان المركزي الذي لا يشذ عن البيانات السابقة، في مثل الحالات التي "يفلُت" فيها سعر الصرف "من عقاله" تضمن تفصيلين جديدين.

الأول، تخفيض سعر الصرف على منصة صيرفة من 85200 ليرة إلى 90 ألف ليرة.

الثاني، السماح للصرّافين من الفئة (أ) بإجراء عمليات صيرفة. أي شراء الليرات من الجمهور وبيعهم الدولار على سعر 90 ألفاً.

دولار صيرفة يرتفع 50 في المئة

مع قرار المركزي الجديد يكون سعر صرف الليرة على منصة صيرفة قد انخفض من 45 ألف ليرة في بداية آذار الحالي، إلى 90 ألفا قبل نهايته وبنسبة بلغت 50 في المئة. ونظراً لكون خدمات الاتصالات الخليوية والانترنت والكهرباء تسعّر بالدولار على سعر منصة صيرفة، فإن "الوفر الذي سيحققه المستهلكون من تراجع سعر الصرف في السوق الموازية من 142 الفاً إلى 110 الاف ليرة، سيدفعونه زيادة في أسعار الاتصالات والكهرباء"، برأي المدير العام السابق للاستثمار والصيانة في وزارة الطاقة غسان بيضون. فـ "تنوب صيرفة عن الدولار الأسود، ويستمر نهب المواطنين في الحالتين".

 الصرافين والدولار المدعوم

إدخال مصرف لبنان الصرافين من الفئة (أ)، في لعبة صيرفة، "فاجأنا"، يقول أحد الصرّافين. مؤكداً أنه لم يكن على علم بالقرار، ولم ينسّق معهم بآليات العمل وسقوف تحويل الليرات إلى دولار والمدة التي تتطلبها". واضعاً الخطوة في إطار "الضغط على المصارف من أجل إعادة فتح أبوابها، والقيام بعمليات صيرفة المعلّقة منذ مطلع آذار الحالي".

خطوة المركزي أعادت إلى أذهان الكثير من المواطنين القرار الشهير الذي اتخذه في حزيران 2020. ففي هذا الشهر قرّر مصرف لبنان بيع الدولار للصرّافين على سعر 2600 ليرة، وبسقف 300 ألف دولار يومياً، من أجل تمويل دفع رواتب العمال الأجانب ومصاريف الطلاب في الخارج. وقتها كان سعر الصرف في السوق الموازية يبلغ حوالي 3900 ليرة، وكانت نسبة الفرق بين الدولار المدعوم على أساس 2600 ليرة وسعر السوق تبلغ 66.6 في المئة. فانتشرت الفوضى، وقام العديد من الصرافين بعمليات تسجيل وهمية للاحتفاظ بالدولار المدعوم، وحُرم أكثرية اللبنانيين المحتاجين عن حق من هذه الاموال بحجة نفاد الكوتا. وما هي إلا أيام قليلة حتى تعطلت الآلية وعاد سعر الصرف ليرتفع إلى 9000 ليرة في تموز 2020.

تغير الظروف

تكرار الأخطاء في السياسة النقدية، لا يقف عند حدود "تجريب المجرّب"، وانتظار نتائج مختلفة إنما يتعدّاه إلى تغير الظروف. ففي منتصف العام 2020 كان لا يزال في جعبة مصرف لبنان ما لا يقل عن 24 مليار دولار من احتياطيات العملات الأجنبية. وكان هامش المناورة عنده أكبر بما لا يقاس، رغم كل المخاطر التي رتبتها قراراته على حقوق المودعين. أما اليوم فان "دعم الدولار"، أو ما يعرف بـ "صيرفة"، يتم من خلال طباعة الليرات وشراء الدولار من السوق، نظراً لنفاد احتياطيات النقد الصعب، وتراجع قيمة التوظيفات الإلزامية للمصارف في مصرف لبنان إلى ما دون 9 مليارات دولار. وعليه فإن هذه الآلية تؤدي إلى زيادة طلب مصرف لبنان على الدولار من السوق، لتمويل بيع الليرات على المنصة بسعر أقل من سعرها الحقيقي، من جهة. وتعجز من الجهة الثانية عن "شفط" كل الليرات من بين أيدي المواطنين لتخفيف الطلب على الدولار. وفي الحالتين لا يحدث الإجراء الصدمة المرجوة في سوق القطع، ويعود سعر الصرف إلى الارتفاع. وبحسب أحد المصرفيين فإن "إطالة فترة السيطرة على الدولار تتطلب من مصرف لبنان التدخل بما يملك من دولارات وليس بما يشتريه. إلّا أن هذه العملية تحمل مخاطر بعيدة المدى أيضاً، ولن تدوم طالما تستمر السلطة السياسية بمجافاة الإصلاحات. وهذا ما بينته التجربة السابقة".

أخطر ما في نتائج قرارات مصرف لبنان لا تتعلق بمحاولات كسب المزيد من الوقت للسلطة السياسية، إنما بـ "انتشاء" المواطنين من التراجع البسيط في سعر صرف الدولار. فالأغلبية التي تتمنى أن يثبّت اليوم على 100 ألف ليرة، استهجنت فيما مضى أن يصبح 4500 ليرة في العام 2024، تبعاً للخطة التي وضعتها حكومة الرئيس حسان دياب... فهل من يذكر!