خالد أبو شقرا
لم يخطر في بال اللبنانيين عشية 17 تشرين الاول 2019، أن تصبح كلفة إفطار يوم واحد في شهر رمضان 2023 تعادل متوسط الأجور في القطاعين العام والخاص حتى يوم أمس الأول. فغداً قد تتجاوز الكلفة المتوقع، ولا تعود الأجور تكفي لتأمين الخبز وحده. وعلى ما يظهر فإن هذا اليوم ليس ببعيد.
كما كل سنة منذ بدء الانهيار، قام باحثو مرصد الأزمة في الجامعة الاميركية في بيروت بدراسة "مؤشر الفتوش"، وكلفة الإفطار في شهر رمضان. وقد تبيّن أن كلفة سلطة الفتوش المكونة من 13 صنفاً من الخضار والبهارات وزيت الزيتون والخبز، قد بلغت 95 ألف ليرة للفرد الواحد. فيما تخطّى متوسط كلفة الإفطار الأساسي الواحد لأسرة مكوّنة من 5 أفراد 6 ملايين ليرة لبنانية.
ارتفاع الأسعار يمتص الزيادات على الرواتب والاجور
الكلفة الباهظة والمتغيرة لتأمين وجبة الفتوش في شهر الصوم الكريم، لا تعبّر عن عمق المشكلة إلا بعد مقارنتها بعاملين ثابتين، وهما:
- عام الأساس، والذي هو العام 2021، تاريخ بدء الاهتمام من قبل أكثر من جهة (وزارة الاقتصاد، الدولية للمعلومات، مرصد الأزمة) بإصدار مؤشر الفتوش باعتباره طبقاً رئيسياً على سفرة الإفطار.
- متوسط الرواتب والأجور في القطاعين العام والخاص.
وبحسب أرقام مرصد الازمة، فإن سعر صحن سلطة الفتوش ارتفع من 14985 ليرة في العام 2021 إلى 95 ألف ليرة في العام 2023، أي أنّه ارتفع في غضون عامين بمقدار 6,3 ضعفاً. في المقابل لم تزداد الأجور رسمياً إلا بمقدار 3 أضعاف في القطاع العام، و3,8 ضعفاً في القطاع الخاص، ولم ترتفع قيمة السحوبات من حسابات الدولار إلا بنسبة 1,8 ضعفاً.
هذه الفروقات الكبيرة بين ما يتقاضاه 80 في المئة من اللبنانيين وما يدفعونه لتأمين بديهيات العيش لا تعبّر عن الواقع الحقيقي رغم قساوتها. فمع ارتفاع سعر الصرف، الخاص، على منصة صيرفة الذي على أساسه تحوّل رواتب الموظفين في القطاع العام من الليرة إلى الدولار، من حدود 30 ألف ليرة تاريخ إقرار الزيادة على الرواتب في كانون الاول 2022، إلى 45 ألف ليرة راهناً، ووصول سعر الصرف الرسمي على المنصة إلى 83500 ليرة (على أساسه تحتسب فواتير الاتصالات والانترنت والكهرباء، وتحويل الليرة إلى دولار بحسب التعميم 161)، عادت القيمة الحقيقية لرواتب القطاع العام إلى أقل ما كانت عليه، قبل مضاعفة موازنة 2022 الرواتب بنسبة 3 أضعاف. أما بالنسبة إلى الجزء الأكبر من القطاع الخاص فقد امتص ارتفاع الأسعار كل ما يتقاضوه بالليرة اللبنانية، ولم يبقَ في حوزتهم إلّا بعض ما تمُنّ عليهم مؤسساتهم بالدولار والذي يقدر بين 20 إلى 50 في المئة من أصل مجمل رواتبهم.
التأقلم السلبي
في الوقت الذي تعادل فيه وجبة الإفطار اليومية لأسرة مؤلفة من 5 أشخاص راتب شهر، يبدو أن الصمود مستحيلاً. فإذا ما أضفنا بقيّة الفواتير المضاعفة والمدولَرة للماء والكهرباء، وكلفة النقل والتعليم والاستشفاء وشراء الملبوسات... يصبح متوسط الراتب الشهري يعادل 5 في المئة من متوسط النفقات، فكيف يصمد اللبنانييون؟
عبر "آليات التكيّف السّلبي"، تجيب الخبيرة الاقتصادية في مجال السياسات والتنمية فرح الشامي، عن مجموعة من وسائل التأقلم غير الصحية التي يزيد استمرار الأزمة من حدّة استنزافها، ومنها:
- التخلي عن وجبة غذائية على الأقلّ في اليوم، واعتماد الكثيرين على وجبة واحدة طيلة النهار.
- الاستغناء عن شراء الكثير من السلع الغذائية، والانتقال نحو السّلع الأرخص التي عادة ما تكون منقوصة القيمة الغذائية ومشكوك بنوعيتها.
- بيع ما تيسر من مقتنيات ثمينة وغير ثمينة كالمجوهرات والعقارات والسيارات، والأثاث والملبوسات وخلافه.
- العمل بأكثر من وظيفة، ولساعات طويلة خلال النهار.
- انتقال أغلبية أفراد الاسرة إلى العمل بوظائف حقيقية أو هامشية.
- وصول تحويلات من الخارج تقدر قيمتها بحوالي 7 مليارات دولار سنوياً، (يستفيد منها ما لا يقلّ عن 350 إلى 400 ألف أسرة من أصل نحو مليون أسرة).
- الاستدانة من الأقارب.
هذا الواقع الذي يثبت حالة انتقال نسبة كبيرة من اللبنانيين إلى ما دون خط الفقر المدقع، سيكبّد الاقتصاد والمواطنين أكلافاً صحية واجتماعية باهظة. إذ يؤكد "باحثو مرصده الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت خطورة آليات التأقلم السلبية التي يتّبعها السكّان لناحية اللجوء الى مواد غذائية ذات جودة ونوعية متردية، أو الاستغناء عن بعض المنتجات المفيدة للصحة، ما سيسبب أزمات صحية كثيرة في السنوات المقبلة، وستكون تبعاتها على القدرة المعيشية وعلى إنتاجية الأفراد وكذلك على فاتورة الصحة العامة كبيرة وخطيرة جداً".
إنهاك المواطنين بـ "الجري" وراء لقمة العيش، هو أحد "استراتيجيات السلطة" للاستمرار بتحميل عبء الأزمة للفئات الأكثر هشاشة، والنأي بنفسها عن تحمّل المسؤولية والمحاسبة"، برأي الشامي. فسياسة التجويع والتفقير وإنهاك القدرات والحرمان من الوقت حتى للتفكير، أدوات لطالما استعملتها الانظمة الكليبتوقراطية (حُكم اللصوصية) لإحكام قبضتها على المجتمع، ولو كان الامر على حساب ما تبقى من صحة جسدية ونفسية لأغلبية المواطنين.