خالد أبو شقرا

من كان يصدق عند اندلاع الأزمة في نهاية العام 2019، أن يصل سعر صرف العملة الوطنية إلى 100 ألف ليرة في الرّبع الأول من العام 2023. ومن لا زال يعجز عن التصديق أن سعر الصرف قد يصل إلى 500 ألف أو مليون ليرة... أو حتى أكثر. فخلافاً لاعتقادات البعض بوجود قعر لهاوية الانهيار، أثبتت الأزمة اللبنانية أنها أخذت الشكل (I) وهو الذي يعني الهبوط إلى ما لا نهاية نتيجة تغييب الإصلاحات. وعليه، لا حدود للانهيار ولا سقف لارتفاع الدولار.

تسقط كل المعادلات الحسابية والرقمية التي تُظهر المبالغة باحتساب سعر الصّرف، أمام إصابة مفاصل البلد بداء "الروماتويد" التعطيلي، أحد أسوأ أمراض المناعة الذاتية. فالقطاع المصرفي مقفل، ولسان حاله إقرار مجلس النواب "الكابيتال كونترول"، ووقف القضاء تحقيقاته بقضايا تحويل الأموال إلى الخارج. رأس السلطة النقدية يخضع اليوم لجلسة استجواب محلّيّة بمشاركة أوروبية قد تفضي إلى توجيه تهم بقضايا تتعلق بالفساد وتبييض الأموال والاستفادة من المال العام. موظفو الإدارة العامة مضربون، ومثلهم أساتذة التعليم الرسمي، وجزء كبير من معلمي المدارس الخاصة. البرلمان عاجز عن التشريع في ظلّ الانتظار المميت لانتخاب رئيس. مجلس الوزراء الذي يصرّف الاعمال منقسم، ووزراءه يشتكون من عدم إشراكهم بالقرارات المصيرية، ولاسيما المتعلقة بالخطّة الاقتصادية.

المصارف وسعر الصرف

أمام هذا الواقع تبدو الأمور مفتوحة على سيناريوهات مختلفة، أحلاها مرّ. ولوضع الأمور في نصابها الصحيح، يجب فصل النتيجة عن السبب. فكل ما يجري من تعطيل في المرافق العامّة والخاصّة بسبب انهيار العملة الوطنية، هو النتيجة الطبيعية لرفض توزيع الخسائر بشكل منطقي وعادل منذ بداية الأزمة، بـ "مشهدية تذكّرنا بطوابير البنزين أمام المحطّات"، يقول منسّق اللجنة القانونية في المرصد الشعبي لمكافحة الفساد المحامي د. جاد طعمة. "فكما افتعلت المنظومة أزمة الدعم ليدفعوا المواطنين صاغرين إلى القبول بأيّ سعر شرط الانتهاء من المذلّة على المحطات، يكبّرون الأزمة اليوم ليضغطوا على المواطنين عموماً والمودعين خصوصاً، لتقبّل فكرة تحمّل الخسائر، والإجراءات غير القانونية التي تطبقها المصارف ومصرف لبنان بتعاميمه". ويجب على المواطنين برأي طعمة أن "يتحلّوا بالحكمة وعدم الخضوع لأي إجراء غير قانوني تحاول المصارف تمريره. خصوصاً لجهة التّصرّف بأصول الدولة بيعاً أو استثماراً للتعويض على المودعين بحجة قدسية الودائع. فعلى على المصارف وأعضاء مجالس إداراتها، تحمّل الخسارة كما تقتضي أصول العمل في الأنظمة الرأسمالية". وبرأي طعمة فإن "إضراب البنوك يرقى إلى مرتبة تعطيل مرفق عام. إذ يؤدي إلى وقف مجموعة واسعة من الخدمات التي لا يمكن أن تتم إلّا من خلالها". وقد كان إقفالها سبباً من أسباب عودة سعر الصّرف إلى الارتفاع، نتيجة التوقّف عن استقبال عمليات تحويل الليرات لحدود مليار ليرة للأفراد، وعشرة مليارات للمؤسسات، إلى الدولار على منصة صيرفة وفقاً للتعميم 161.

الدعاوى على الحاكم

من الأسباب المباشرة لارتفاع سعر الصّرف تبرز الخشية من وضع رأس السلطة النقدية على قائمة العقوبات الدّوليّة. وما قد يترتب على هذا الإجراء من انعكاس على البلد والاقتصاد. وذلك على الرّغم من "استبعاد توجيه اتهام للحاكم رياض سلامة في جلسة اليوم المحددة من قبل القاضي شربل أبو سمرا، بمشاركة قضائية أوروبية"، برأي طعمة. "فتحرك القضاء اللبناني أتى أوّلاً عقب التحقيقات الأوروبية الجدّية في ملف الحاكم وعودة الوفد القضائي الأوروبي مطلع هذا الأسبوع للمشاركة في الجلسات. والسيناريو المنتظر اليوم أو غداً هو تأجيل الجلسات بانتظار أن تبتّ محكمة التّمييز باعتراض سلامة على وجود المحققين الأوروبيين في جلسة الاستماع. و"في جميع الحالات فإن مسار القضاء اللبناني، ممثلاً برأس النيابة العامة التمييزية، بالتعامل مع الدعاوى المصرفية، يظهر أنّه إلى جانب الحاكم والقطاع المصرفي منذ بدء الأزمة"، من وجهة نظر طعمة. "فلا يجب أن نتوقع الأسوأ. مع العلم أن كلّ تعاميم الحاكم غير قانونية وكل السياسة المتّبعة أدّت إلى انهيار العملة الوطنية. ولو كان هناك قضاء جدّي لكان كل المتسبّبين بالانهيار لا يلاحقون على جرائم الفساد، إنما على التسبب بانهيار العملة الوطنية من خلال التوسع بطباعة العملة الوطنية من دون أسس علمية".

المضاربة على العملة الوطنية

إضافة إلى المشاكل المصرفية "تشهد العملة الوطنية مضاربة واضحة"، بحسب أوساط الصّرّافين. فعدا عن الطّلب التقليدي من مصرف لبنان، ازدادت كتلة الليرات المراد تحويلها إلى دولار في الأيام القليلة الماضية، بغضّ النّظر عن السعر. وهو الأمر الذي زاد من الضغط على الليرة. وقد ترافق هذا الواقع مع تهويل على مواقع التواصل الاجتماعي بإمكانية توقيف المصارف كافة خدماتها. الأمر الذي سيؤدي إلى العجز عن فتح الاعتمادات المستندية من قبل التجار للاستيراد، وعدم تمكّن الافراد من استلام الحوالات، أو سحب ما في حساباتهم "الطازجة" من دولارات نقدية. ما دفع لأوسع عملية تخلص من الليرات وطلب الدولار تحسّباً للقادم من الأيام، لتأمين السلع من السوق الموازية مقابل الدولار النقدي.

الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية

أمام هذا الواقع وفي ظلّ تراجع إيرادات الدّولة نتيجة تعطّل مرافقها مقابل زيادة نفقاتها بشكل هائل، يستمر مصرف لبنان في طباعة الليرات. ولقد ارتفع حجم الكتلة النقدية الموضوعة بالتداول + الودائع بالليرة تحت الطلب M1 من 96122 مليار ليرة في 23 شباط، إلى 98688 مليار ليرة في مطلع آذار، أي بمعدل 2566 مليار ليرة في غضون 7 أيام فقط. ومن الطبيعي أن نحو 90 في المئة من الليرات المطبوعة تتحول طلباً على الدولار بشكل مباشر من عند الصّرّافين، أو بشكل غير مباشر نتيجة الاستيراد، الأمر الذي يدفع التجار إلى طلب الدولار لإعادة شراء السلع من الخارج.

 إضراب المصارف

هذا غيض من فيض الأسباب التي تدفع سعر الصّرف للتّحليق من دون حدود. ثلاث سنوات من تقصّد غياب المعالجات الجدّية كانت كفيلة بخسارة العملة الوطنية 98.5 في المئة من قيمتها. فمقابل الخسائر التي مني بها الاقتصاد وتحميل كلفة الأزمة للمواطنين من خلال التضخم، وارتفاع قيمة الاقتطاعات من حسابات المودعين "هيركات" بأكثر من 85 في المئة، كان هناك رابحون. فالدّولة خفّضت الدين العام بالليرة اللبنانية من حدود 70 ألف مليار ليرة كانت تشكل 46 مليار دولار إلى 700 مليون دولار. المدينون الذين سدّدوا ما يقرب 27 مليار دولار بقيم أقل بكثير من قيمتها الفعلية. حيث سمح مصرف لبنان بالتعميم تسديد الأفراد ديون الدولار بالليرة على سعر الصرف الرسمي والمؤسسات المقيمة بـ "اللولار". المصارف التي ذوبت ما يقرب 60 مليار دولار من الودائع، 80 في المئة منها على أقل تعديل بالدولار، إذ تراج حجم الودائع من حدود 160 مليار دولار في العام 2019 إلى 97 مليار دولار اليوم. واستمرت من دون أي تغيير جدّي في إدارتها أو حوكمتها.