خالد أبو شقرا

لم تصمد "هدنة" الدولار المصطنعة، التي فرضها مصرف لبنان عبر فتح سقوف التحويل من الليرة إلى الدولار على منصة صيرفة، إلا لخمسة أيام عمل فعلية. فمع عودة "القصف" القضائي بـ "عيارات" إلزام "بنك ميد" تسديد وديعة نقداً بالدولار الأميركي تحت طائلة ختم المصرف بالشمع الأحمر، ورد المصارف بـ "مضادات" الإضراب العام، طارت الهدنة وطار معها الدولار.

أصلاً لم يكن مكتوباً لخطوة المركزي بيع الدولار على منصة صيرفة لتخفيف الطلب على النقد الصعب العمر الطويل. فعدا عن "الخطأ الحسابي" الذي تمثل هذه المرة بالتدخل الخجول للمركزي بمتوسط بيعٍ للدولار لم يتجاوز 48 مليونا في اليوم الواحد، فإن سياسات المركزي للجم ارتفاع الدولار منذ بدء الأزمة عبر منصة غير شفافة توصف بـ "الخطأ المبدئي". وهي أساساً تهدف في العلن إلى "شراء الوقت للمسؤولين للاتفاق سياسياً واقتصادياً والانطلاق بالإصلاحات"، على حد تصريح حاكم المصرف المركزي في أكثر من مناسبة. بينما تزداد الشكوك في المضمون يوما بعد يوم، أن تمييع الإصلاحات المطلوبة، وتعميق الخلاف بين الكتل السياسية على الحلول الأجدى، قد يكون عملاً مقصوداً لتذويب الديون، وتقليص الودائع بالتضخم. وهل يوجد أحسن من سعر صرف متفلت من عقاله لتنفيذ هذا المخطط؟!

سعر الصرف أعلى من قيمته الفعلية

ما يقهر أن السعر الحقيقي للدولار، يمكن أن يكون أقل بكثير من 90 ألف ليرة. من الناحية النظرية البحت يمكن احتساب سعر الصرف من خلال قسمة M2 (تمثل السيولة بالليرة اللبنانية + الودائع بالليرة تحت الطلب + الودائع بالليرة لأجل) على احتياطي النقد الأجنبي في مصرف لبنان. وبحسب الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان مطلع آذار الحالي، فإن  M2 = 126844 مليار ليرة. واحتياطي العملات الأجنبية من دون الذهب يساوي 10 مليار دولار. فتصبح المعادلة 123844 ألف مليار ليرة/ 10 مليار دولار = 14 ألف ليرة، مقابل دولار. فلماذا سعر الصرف في السوق الموازية 90 ألف ليرة ويرتفع باضطراد؟

انعدام الثقة

"لأن الثقة مفقودة"، يجيب مصدر مالي فضّل عدم الكشف عن اسمه. "من يُربط بهم أخذ القرارات المصيرية، وأقصد بهم المشرعين في مجلس النواب، مقسمون إلى ثلاثة أقسام. قسم لا يفقه بالاقتصاد، وقسم مسيّر بأجندات محددة سلفاً ولا يقبل النقاش، وقسم آخر صغير جداً موضوعي وعاقل، إنما لا تأثير له على القرارات المصيرية". ولكي نبسّط الأمور يمكن القول إن الأغلبية السياسية والمصرفية ترفض الإصلاحات الكفيلة بتأمين الاستقرار لسببين:

الأول، لإبعاد كأس المحاسبة المرّ عن التجاوزات خلال الفترة الماضية. إذ من شأن الإصلاحات الجدية، مثل التدقيق الجنائي في مصرف لبنان والمؤسسات، والتدقيق في ميزانيات المصارف، ورفع السرية المصرفية والامتثال لمعيار التبادل التلقائي للمعلومات الذي أقرته معاهدة "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" OECD، في العام 2014 ووافق عليه لبنان... كشف المتورطين في قضايا الفساد وتهريب الاموال.

الثاني، تنفيذ الإصلاحات ولاسيما منها على صعيد الدولة وماليتها العامة، تعني إقصاء المنظومة عن مراكز القرار في التوظيف والصفقات، وبالتالي إضعاف نفوذهم في الانتخابات وهذا ما لا يريده أحد.

الناحية المالية

هذا من الناحية السياسية، أما من النواحي الاقتصادية النقدية والمالية فإن الأمور لا تقلّ تعقيداً. ولنبدأ بالمالية، فبحسب الأرقام فإن عجز الموازنة الذي قدّر بـ 10 آلاف مليار ليرة سيتجاوز هذا الرقم بأشواط نتيجة التوسّع بالإنفاق. يعوض عنه بفرض المزيد من الضرائب ورفع الرسوم ما يثقل كاهل المواطن والاقتصاد الشرعي. والعجز في ميزاني التجارة والمدفوعات عن العام 2022 مستمر بالارتفاع بقيمة فاقت 16 و5.5 مليار دولار على التوالي. ولا تعوض التدفقات النقدية المتمثلة بتحويلات المغتربين والمقدرة بـ 7 مليار دولار، هذه الفجوة الكبيرة.

الناحية النقدية

أما على المستوى النقدي فهناك 86 مليار دولار من أصل حوالي 98 مليار دولار من مجمل حجم الودائع لا وجود مادي لها. ومصرف لبنان مستمر بسياسة طباعة الليرات وامتصاصها، لتلبية احتياجات الدولة والسحب من الودائع "بهير كات" يتجاوز 80 في المئة، ما يدفع إلى أوسع عملية ليلرة للاقتصاد. كما وتحفز منصة صيرفة على أوسع عملية مضاربة على الليرة، من خلال تعمد حاملي الدولار (تقدر المبالغ الموجودة في المنازل بـ 8 مليار دولار) على بيعه بسعر السوق الموزاية وإعادة شرائه بسعر أعلى على صيرفة وتحقيق ربح يتراوح بين 20 و50 سنتاً بكل دولار.

الناحية الاقتصادية

وبالنسبة إلى الوضع الاقتصادي فإن دولرة الأسعار أفقد الليرة خاصية اعتبارها أداة للتبادل، وذلك بعدما فقدت دورها كأداة لحفظ القيمة أو الادخار.

إذا جمعنا كل هذه العوامل يصبح الارتفاع المستمر في سعر الدولار منطقي ومن دون سقف، مهما كذّبته الحسابات. وأليس السوق هو خير معبّر عن الواقع في الاقتصاديات الليبرالية الحرّة! وكل الخوف أن يكون ما يحصل هو المقدمة "لطائف" إقتصادي جديد، يعفي المنظومة عن جرائمها الاقتصادية، ويفتح لها صفحة بيضاء جديدة لتلوثها بعد عدد قليل من السنوات بعبثيتها القاتلة.