خالد أبو شقرا
إذا كان "الوقت هو المال"، على حد توصيف بنجامين فرانكلين، فإن كلفة شرائه بالهندسات النقديةُ المُكررة على منصة صيرفة، لصالح السياسيين لم تعد محمولة. فسرعان ما سيذوب ثلج مئات الملايين من الدولارات التي سيضُخّها المصرف المركزي لامتصاص فائض الليرات، ويظهر مرج الارتفاع المتواصل للدولار. إذ عمد مصرف لبنان منتصف هذا الاسبوع إلى رفع دولار صيرفة إلى 70 ألف ليرة وفتح سقف تحويل الليرات إلى دولار لغاية مليار ليرة للأفراد و10 مليارات للمؤسسات. وطلب من المصارف فتح أبوابها في عطلة نهاية هذا الأسبوع. فانخفض سعر الصرف من حدود 93 ألف ليرة إلى 79 ألفاً عقب إصدار البيان مباشرة ليعود ويتراوح بين 79 و82 ألف ليرة في الأيام التي تبعت القرار.
لا داعي لاستحضار عشرات المحاولات للسيطرة على ارتفاع الدولار منذ بدء الأزمة عبر منصة صيرفة. يكفي فقط العودة إلى تاريخ 27 كانون الاول 2022، لاستشراف ما سيكون عليه الحال بعد عدة أيام. فمع ارتفاع سعر صرف الدولار من حدود 40 ألف ليرة مطلع كانون الاول الماضي، إلى 48 ألفا في نهايته، وتهديده بتجاوز عتبة 50 ألفا مع بداية العام الجديد، أصدر مصرف لبنان بياناً مقتضباً جاء فيه:
أولاً، رفع سعر sayrafa من 31200 ليرة ليصل إلى 38000 ليرة.
ثانيًا، يشتري مصرف لبنان كل الليرات اللبنانية ويبيع الدولار على سعر Sayrafa. ويمكن للأفراد والمؤسسات ودون حدود بالأرقام أن يتقدموا من كل المصارف اللبنانية لتمرير هذه العمليات وذلك حتى إشعار آخر. واستتبع البيان بـ "الطلب من كل مواطن لم يتجاوب معه مصرفه المعتاد، أن يتجه فوراً إلى بنك الموارد"، لإتمام التحويل.
ما الذي حصل؟
لم يصمد هذا التدبير إلا لسبعة أيام عمل فعلية. انتهى في 10 كانون الثاني بعد أن كان المركزي قد ضخ 1.3 مليار دولار على منصة صيرفة، أدّت إلى تراجع الدولار بنسبة 12 في المئة فقط. ومن بعد العاشر من كانون الثاني توقفت المصارف عن عمليات التحويل، واحتجزت المبالغ بالليرة التي حملها المواطنون إليها لتبديلها بالدولار. فكانت النتيجة عودة الدولار إلى الارتفاع وخسارة عدد كبير من العملاء ما يقرب 25 إلى 30 في المئة نتيجة فرق سعر الصرف. وما هي إلّا أسابيع حتى وصل سعر الصرف إلى 93 ألف ليرة.
إسقاط البدائل
هذا السيناريو المكرّر الذي يهدف المركزي من ورائه إعطاء السياسيين الوقت لتنفيذ الإصلاحات، هو "أكثر المتاح في الوقت الراهن، على الرغم من كلفته العالية"، يقول المدير العام السابق في بنوك عالمية وصناديق استثمار، صائب الزين. "فالمصرف المركزي لم يكن مضطراً لاتخاذ مثل هذه القرارات، لو لم يُسقط السياسيون عبر لجنة المال والموازنة النيابية خطة التعافي المالي التي وضعتها حكومة الرئيس حسان دياب في العام الأوّل على الأزمة. ويعيدون الكرة نفسها مع "استراتيجية النهوض في القطاع المالي"، التي قدّمتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي والمتفق عليها مع صندوق النقد الدولي في نيسان من العام 2022".
البداية كانت مع افتراض لجنة تقصي الحقائق المنبثقة عن لجنة المال والموازنة، أن تحديد خسائر القطاع المصرفي بـ 241 ألف مليار ليرة، سيحرم المودعين من التعويض العادل. واعتبرت اللجنة: "إن الرقم الحقيقي للخسائر يتراوح بين 60 ألف مليار ليرة و91 ألف مليار ليرة. ويمكن الوصول إلى 122 ألف مليار في حال أردنا تعظيمها". وبحجة حماية المودعين ذوّب من وقتها نحو 60 مليار دولار من الودائع، وانخفض احتياطي المركزي من 30 مليار دولار إلى 10 مليارات، وارتفع "الهيركات" على المودعين إلى 92 في المئة، وانخفض سعر "اليوروبوندز" إلى أقل من 7 سنت للدولار، وتوسعت الفجوة النقدية في مصرف لبنان إلى أكثر من 72 مليار دولار. ومع هذا تستمر لعبة تضييع الوقت برفض ما تطرحه "استراتيجية النهوض بالقطاع المالي"، مرة بحجة عدم وجود أرقام دقيقة يمكن الاعتماد عليها لدرس مقترحات القوانين التي تعبر عنها، ومرات برفض تراتبية الخسائر التي يطلبها صندوق النقد الدولي. مع العلم أن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي كانت قد خففت من هذا المطلب عبر اقتراحها انشاء صندوق استرداد الودائع. وذلك بغض النظر عن فعاليته الحقيقية على استرداد كبار المودعين لأموالهم، أو حتى إمكانية موافقة صندوق النقد الدولي عليه.
كلفة شراء الوقت
التدخل المتكرر لمصرف لبنان عبر منصة صيرفة، في ظل غياب الإصلاحات، يمثّل الوجه الآخر لتفلّت سعر الصرف. فمع إظهار ميزانياته نصف الشهرية عدم تراجع احتياطاته من العملة الصعبة بالمقارنة مع ما يُضخ من دولارات على المنصة، "يعني اعتماده على الدولارات التي يشتريها من السوق"، بحسب الزين. وهذه العملية التي يقدّر حجمها بأكثر من 200 مليون دولار تمثّل الطّلب الأكبر على النقد الصعب. ولعلّ الأخطر هو ما رشح من التحقيقات مع الصرافين بأن المركزي يطلب الدولار من دون تحديد سعر الشراء. الأمر الذي يدفع إلى أوسع عملية مضاربة من قبل الصرّافين لجمع المبالغ، ويحتّم استمرار الدولار بالارتفاع مقابل الليرة طالما لم تعتمد الحلول الجذرية. "ما يعني أن المركزي الذي يدعم من جهة سعر صرف الليرة لعدم تفلّتها بشكل كبير، يعود من الجهة الأخرى لشراء الدولار من السوق لتلبية متطلبات التعاميم وتمويل الدولة"، يضيف الزين. "فنبقى في الدائرة المغلقة نفسها، التي تزيد اتساعاً".
الليلرة
على النقيض من البنود الإصلاحية المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي، "يظهر أن الاستراتيجية الوحيدة التي اعتمدتها المنظومة منذ بداية الأزمة بالتنسيق مع مصرف لبنان، كانت "ليلرة" مطلوبات القطاعين العام والخاص، من الودائع وقروض"، يقول الزين. و "هو من المسببات الأساسية لاستمرار الليرة في الانهيار".
عرض مصرف لبنان، المُشاهد سابقا "déjà vue"، يظهر أنّه سيستمر طالما لا يوجد "خطّة شاملة ممهورة بختم صندوق النقد الدولي"، يقول الزين. وكل ما تتطلبه الخطّة هو تنفيذ الإصلاحات التي تصبّ في مصلحة استعادة لبنان للمصداقية الدّولية. وأهم هذه الإصلاحات إعادة هيكلة القطاع المصرفي. والشّروع في تقييم أكبر 14 مصرفاً. والانتهاء من تدقيق خاص في وضع الأصول الأجنبية لمصرف لبنان. وموافقة مجلس الوزراء على استراتيجية متوسطة المدى لإعادة هيكلة المالية العامة والدين. وتوحيد أسعار الصرف لمعاملات الحساب الجاري المُصرّح بها. بيد أن هذه الإصلاحات التي تفرض المحاسبة عن أخطاء المنظومة في المرحلة السابقة، وتحد من قدرتها على استغلال الدولة ومرافقها، "ما زالت لغاية اليوم تلاقي رفض القوى السياسية الأساسية"، يختم الزين. "وهو ما لا يبشّر بأن الحل قريب".