خالد أبو شقرا

أوقعت الأزمة اللبنانية المسؤولين عن إدارتها في فخ التجربة. ولكن بدلاً من الاتعاظ من الماضي وتجنّب الأخطاء المرتكبة، يعيدون "كرّة" رفع الدولار الجمركي، مرّة تلو المرّة ويتوقعون نتائج مختلفة. وهذا قمّة الجنون بحسب آينشتاين الذي ينسب إليه القول المشهور إنّه "من الحماقة فعل الشيء مرتين بنفس الخطوات ونفس الأسلوب وانتظار نتائج مختلفة".

من دون شوشرة، سُرّب في اليوم الأخير من شهر شباط الفائت، خبر موافقة رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي على اقتراح وزارة المالية رفع الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة بالدولار من 15 ألف ليرة إلى 45 ألف ليرة. ولعلّ التكتّم على نيّة رفع ما أصبح يعرف في لبنان بـ "الدولار الجمركي"، هو الدرس الوحيد الذي تعلّمته السّلطة من التجربة الماضية. ذلك أن الإعلان عن رفع الدولار الجمركي من 1500 ليرة إلى 15 ألف ليرة، قبل إقراره بنحو تسعة أشهر من العام 2022، أدّى إلى أوسع عملية استيراد. حيث بلغت قيمة السيارات المستوردة بحسب إحصاءات "الدّولية للمعلومات" 1.4 مليار دولار، مقارنة مع 772 مليون دولار في العام 2019 قبل الأزمة. كما بلغت قيمة الأجهزة الخلوية المستوردة 327 مليون دولار في العام 2022، مقارنة مع 129 مليون دولار في العام 2019. وفاق حجم الاستيراد بشكل عام 19 مليار دولار. "الاستيراد الإستباقي" من قِبَل التجار وبهدف تحقيق الأرباح، أدّى إلى ضغط هائل على ميزان المدفوعات، الذي فاق عجزه 5 مليارات دولار. الأمر الذي أدى إلى زيادة الطلب على الدولار، وانهيار الليرة وما تبقى من قدرة شرائية.

تضخم الأسعار

باستثناء عدم الإعلان عن رفع الدولار الجمركي قبل تطبيق القرار، فإن بقية النتائج ستكون سلبية على اقتصاد منهار، تحوّل بفعل الأزمة المصرفية إلى نقدي، يعمُّه التهرّب الضّريبي والتّهريب الجمركي. ومما يفاقم من التداعيات السلبية للقرار هو أن خلفيته كانت إعطاء زيادة "وهمية" على رواتب وأجور العاملين الفاعلين في القطاع العام، المقدّر عددهم بحوالي 320 ألف موظف، وليس الإصلاح الهيكلي للاقتصاد. ما سيحمّل المواطن الصالح، والمؤسسات التي تصرّح بصدق، ولا تملك دفترين للمحاسبة، تبعاته الثقيلة. "فبدلاً من قيام الدولة اللبنانية بالإصلاحات الكفيلة بحماية القدرة الشرائية لموظفيها، تقتص من 5 ملايين لبناني يعانون من ظروف معيشية سيئة، من خلال زيادة الضرائب والرسوم"، يقول عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عدنان رمال. و"قبل أن يتقاضى موظف القطاع العام هذه الزيادة المتأتية من زيادة الرسم الجمركي ستكون الأسعار قد تضخمت أكثر وارتفع سعر الصرف. وعليه تصبح هذه الزيادة وكأنها لم تعط. تماماً كما حصل مع امتصاص الغلاء للرواتب الثلاثة التي أعطيت في موازنة 2022، استنادا إلى رفع الدولار الجمركي وقتها من 1500 ليرة إلى 15 ألف ليرة".

علاقة طردية تربط ارتفاع الأسعار بزيادة الضرائب

تجارب السّنوات القليلة الماضية تُظهر بوضوح العلاقة الطردية بين زيادة الرواتب والأجور المستندة على رفع الضرائب والرسوم وليس على الإصلاحات، وبين ارتفاع الأسعار. ففي العام 2017 أقرّت سلسلة الرّتب والرواتب، ورفعت في المقابل الضرائب والرسوم لتأمين ما يقرب 18 ألف مليار ليرة. فلم يتأمّن المبلغ في العام 2018 وارتفعت الأسعار. والأمر نفسه حصل في العام 2021 مع التوسّع بإعطاء الزيادات على الرواتب (المساعدة الاجتماعية) بمراسيم رئاسية. وفي العام 2022 أقرّ في الموازنة رفع الرواتب وبدل النقل. فأصبحت تشكل أكثر من 90 في المئة من مجمل النفقات المقدرة بـ 39 ألف مليار ليرة، ورفعت في المقابل الرسوم والضرائب. فكان أن امتص الغلاء الزيادات، وعادت الأمور إلى المربّع الأول من شلّ القطاع العام بالإضرابات. وما يُطرح اليوم من رفع بدل النّقل إلى 5 ليترات بنزين يقارب سعرها 400 ألف ليرة، بحسب أسعار اليوم، وإعطاء بدل إنتاجية يتراوح بين 400 ألف ليرة والمليون ليرة، وإقرار راتبين في موازنة 2023، لا يشذّ عن سياسة الترقيع نفسها التي اعتمدت خلال السنوات الماضية. وهو ما سيرفع كلفة الرواتب والأجور إلى حدود 70 ألف مليار ليرة.

مردود الدولار الجمركي بالأرقام

"النفقات المرتفعة لتمويل الرواتب والأجور يستحيل تمويلها من زيادة الرسم الجمركي حتى من الناحية التقنية. فدخل الدولة بحسب الإنفاق على القاعدة الاثني عشرية لا يتجاوز 30 ألف مليار ليرة. وحتى مع رفع الدولار الجمركي إلى 45 ألف ليرة، فإن الرقم يبقى بعيداً جداً عن المطلوب. وبحسب التوقعات فان الاستيراد سيتراجع هذا العام بنسبة لا تقل عن 20 في المئة وسيصبح بحدود 15 مليار دولار"، برأي رمال. "في المقابل هناك المستوردات من الاتحاد الاوروبي والدول العربية، والاصناف الغذائية والمواد الاولية المعفية من الرسوم الجمركية والتي تشكّل من 60 إلى 70 في المئة من مجمل قيمة المستوردات. وبالتالي هناك 30 في المئة فقط من المستوردات بقيمة 5 مليارات دولار ستخضع للرسم الجمركي الجديد على أساس 45 ألف ليرة للدولار.  وإذا احتسبنا متوسط الرسم الجمركي 12 في المئة فإن مجمل ما ستجنيه الدولة يقدر بحوالي 600 مليون دولار، أو 27 ألف مليار ليرة لبنانية على أساس دولار 45 ألف ليرة.

العوائد نظرية

الرقم المنتظر من الرسوم الجمركية يبقى في الإطار النظري، ومن الصعب تحقيقه على أرض الواقع لسببين:

الأول، يتعلق بتغير تركيبة الواردات والتركيز على السلع المنخفضة الثّمن بسبب الأزمة.

الثاني، التوسع الهائل في الاقتصاد الموازي، حيث يتوقع أن تكون نسب التهرّب الضريبي والتهريب الجمركي قد ارتفعت من حدود 25 في المئة إلى 75 في المئة.

وعليه فإن رفع الدولار الجمركي من دون ضبط الحدود ومراقبة المعابر والتدقيق بالشحنات، سيحرم الخزينة من الجزء الأكبر من العوائد، وسيرهق المواطنين، ويحدّ من قدرة المؤسسات التجارية الشرعية من منافسة المؤسسات غير الشرعية التي تعتمد على التهريب الجمركي والتهرّب الضريبي.

حماية الصناعة الوطنية

حماية الصناعة الوطنية من المنافسة الخارجية يمثّل أحد الأسباب التخفيفية التي تعطى لرفع الدولار الجمركي. إلا أن التجربة أثبت أن ما تحتاجه الصناعة الوطنية ليس معاملتها كقاصر، إنّما توفير أبسط احتياجاتها المتمثلة بالطاقة. ففي ظل تحمّل المؤسسات أعلى كلفة طاقة في العالم نتيجة انعدام توفر خدمة الكهرباء، فإن السلع المستوردة من الكثير من الوجهات ستبقى أرخص من الصناعة الوطنية مهما رفعنا الدولار الجمركي.

ثلاث سنوات على نشوب واحدة من أعتى ثلاث أزمات اقتصادية ضربت العالم منذ القرن العشرين، والمعالجات ما زالت بالمسكنات. والنتيجة تسكين آني لـ "أوجاع" الموظفين الحياتية، فيما مرض الدّولة العضال يزداد انتشاراً.