خالد أبو شقرا
خالف إضراب المصارف الاعتقاد الشعبي المبني على المقولة المأثورة "التالتة تابتة". فالتوفيق في حماية نفسها يبدو أنّه لن يتحقٌق في الاضراب الثالث، بعد فشل المحاولتين الأولى والثانية، بل على العكس سيزيد الأمور سوءاً. فسياق الأحداث يُظهر أن الإضراب سـ"يسعّر" الدعوات القضائية، ولن يسرٌع إقرار القانون الخاص بوضع ضوابط استثنائية ومؤقتة على التحاويل المصرفية والسحوبات النقدية، أو ما يعرف تقنياً بـ "الكابيتال كونترول".
من بعد الإقفال لمدة 12 يوماً عقب اندلاع الاحتجاجات اللبنانية في 17 تشرين الاول 2019 بانتظار امتصاص غضب الثائرين، جددت المصارف الإقفال في مطلع تشرين الأول 2022 كردّ على اقتحامات المودعين ومحاولتهم تحصيل حقوقهم بالقوة. وفي خضم الاستنسابية في تشريع الأبواب أمام المودعين، عادت البنوك لتعلن الاضراب العام ابتداء من 6 شباط 2023 على خلفية الاستدعاءات القضائية التي طالت رؤساء وأعضاء مجالس إدارات بعض المصارف، والمطالبة برفع السرية المصرفية بمفعول رجعي، والحكم لصالح أحد المودعين بتقاضي وديعته نقداً وليس بواسطة شيك مصرفي.
ماذا تريد المصارف؟
"رياح" الكتل السياسية في المجلس النيابي، "سارت بعكس ما اشتهت سفن" المصارف. فلم توفق هيئة مكتب البرلمان بالدعوة لالتئام الهيئة العامة يوم الخميس الفائت الواقع فيه 16 شباط 2023 لعرض "الكابيتال كونترول" على التصويت، بسبب مقاطعة الكتل السياسية المسيحية الرئيسية وفريق المعارضة النيابي. وهنا وقعت المصارف في المحظور، فأي تراجع من قبلها سيعتبر رضوخاً للأمر الواقع، ففضلت الاستمرار بالإقفال ظاهرياً، مع تسييرها فتح الاعتمادات التجارية داخلياً، وتقديم الخدمات عبر الصرّافات الآلية.
لفهم تفاصيل الموقف الذي وضعت المصارف نفسها به يجب العودة قليلاً إلى الوراء. فمع نضوج طبخة "الكابيتال كونترول" وجهوزيتها للعرض على الهيئة العامة مع البنود غير المتفق عليها، قطع نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب تعهداً بإبقاء القانون في الثلاجة إلى حين الانتهاء من القانونين الآخرين، وهما: عودة الانتظام المالي، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي. "وإذ نتفاجأ بتحويل قانون "الكابيتال كونترول" إلى الهيئة العامة، ووضعه كبند أول على جدول الأعمال قبل البنود التي تتعلق بالتمديد للقادة الأمنيين، الذي كان على ما يبدو الذريعة لعقد جلسة وإقرار القانون"، يقول رئيس لجنة حماية المودعين في نقابة المحامين المحامي كريم ضاهر. "وقد أتى هذا التطور عقب زيارة بو صعب مع نواب مستقلين تغيريين إلى واشنطن والاجتماع بصندوق النقد الدولي، ظناً منهم بإمكانية الخروج بتسوية بموضع "الكابيتال كونترول" كتلك التي جرت قبل ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. مع التعهد أن تقرّ بقية المطالب المتعلقة بالوضعين المالي والمصرفي في وقت لاحق".
في الموازاة أصدر المصرف المركزي التعميم رقم 659 تاريخ 20 كانون الثاني 2023، الذي يعتبر بمثابة إعادة هيكلة أحادية ومموّهة للقطاع المصرفي. حيث سمح بتسديد الخسائر على 5 سنوات ووزع الأرباح وهمياً، وسمح بتقييم أصول القطاع المصرفي على أساس منصة صيرفة أو بالدولار النقدي. وذلك خلافاً للقوانين، وآخرها ما تضمنته موازنة 2022. "هذه الآلية التي اعتمدها المركزي، والتي ندرس آلية الطعن بها"، يتابع ضاهر. "جرى إبلاغها من قبل الوفد لصندوق النقد مع التشديد على إقرار القوانين الأخرى تباعاً. "فما كان من صندوق النقد إلا أن أفشل هذا المخطط، وسحب الحجة التي طمح المسؤولون اللبنانيون باستخدامها لتبرير تشريع الضرورة بضغط من صندوق النقد الدولي. وفي هذه المرحلة رفعت المصارف من سقف تهديداتها معلنة الإضراب المفتوح".
الاستدعاءات القضائية
لم يكد يمضي أيام حتى سطّرت المدعي العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون استنابة قضائية لرفع السرية المصرفية عن رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف للكشف عن حوالي 9 مليار دولار جرى تهريبها عقب الاحتجاجات اللبنانية في 17 تشرين االأول. وبرأي ضاهر فإن "هذا أكثر ما تخشاه المصارف فعلياً، وليس الحكم لصالح المودعين لاسترداد الودائع نقداً من أحد المصارف اللبنانية (فرنسبنك). خاصة أن رفع السرية المصرفية عن بعض البنوك سيكشف الكثير من الأمور، ومنها التحاويل إلى الخارج، والتلاعب بكيفية شراء وبيع سندات "اليوروبوندز" لفروعها في الخارج". وعليه اعتقدت المصارف أن تمرير "الكابيتال كونترول" مع التعميم 659، يجنبها الملاحقات، فيعلقون الإضراب وتستمر الأمور على ما هي عليه من طمس لما جرى سابقاً، وتذويب للودائع على أسعار صرف غير حقيقية. وفي هذه الحالة "لن يبقى في المصارف بعد عدد من السنوات إلا كبار المودعين القريبين من السلطة والممولين لها"، برأي ضاهر، فيجري تحويل أصول الدولة لهم، تحت حجة ضرورة حمايتهم".
[caption id="attachment_4580" align="aligncenter" width="1024"]
واقع الودائع وكيفية توزعها
ما يخشاه ضاهر ظهّرته أرقام "كلنا إرادة" التي أشارت في تقرير أصدرته إلى أن عدد الحسابات المصرفية التي تحوي أكثر من 50 مليون دولار انخفض من 92 حساباً، بقيمة إجمالية تساوي 10.8 مليار دولار في العام 2019 إلى 32 حساباً فقط، بقيمة إجمالية تساوي 3.2 مليار دولار في مطلع العام 2023. ومن الأرقام المهمة التي يمكن التوقف عندها، وجود مليون و250 ألف حساب يحوي الواحد منها على أقل من 100ألف دولار، من أصل مليون و400 ألف حساب. ما يعني أن 90 في المئة من الودائع تعود لصغار المودعين ويتوجب حمايَتها.
الدعاوى
في هذه الاثناء بدأت تأخذ الدعاوى على المصارف بعداً جديداً، حيث اعتبر رجل الأعمال، خلف الحبتور، ان "الاستمرار في احتجاز أموال المودعين يعتبر قرصنة مستباحة لأرزاق الناس من قبل مصرفيين فاسدين ومتواطئين معهم حلّلوا لأنفسهم هذا النهب"، متسائلاً: "هل يُعقل في أيامنا هذه حيث تتحكم الحوكمة وقوانين الشفافية الدولية بكل التحركات المالية أن يستمر ذلك؟ إلى متى؟ أما من رادع لهذه الجريمة؟" مشيراً إلى اعتزامه تجهيز ملف دعوى جماعية مع مكاتب قانونية عالمية لمقاضاة كل المتورطين بهذه الجريمة. وكان رجل الاعمال الأردني، طلال أبو غزالة، قد أعلن في وقت سابق اتخاذ قرار برفع دعوى جماعية ضد المصارف اللبنانية، وذلك بعد تكليفه من قبل جمعية "صرخة المودعين" و"الجبهة الموحدة للمودعين"، بهدف المطالبة وتحصيل أموالهم المجمّدة وفوائدها المتراكمة منذ عدة سنوات في البنوك اللبنانية". هذه الدعاوى على أهميتها "لا توصل إلى الحل المنشود"، بحسب ضاهر. "فالدعوى المرفوعة من قبل أبو غزالة ليست لاسترداد الودائع، إنما هي دعوى جزائية ضد "مجموعة أشرار" وهم الدولة ومصرف لبنان وجمعية المصارف. وهناك شكوى مقدمة في الخارج بنفس الإطار من قبل جمعية "شربا" وجمعية "المحاسبة الآن" والتي على أساسها تُجرى التحقيقات الأوروبية. أمّا من الناحية التقنية فان استلام دعاوى عن آلاف المودعين يتطلب فريقاً هائلاً من المحامين والموارد المالية. ويكفي أن نعرف أن مصاريف الدعوى التي أقامها فاروج مانوكيان في الخارج عادلت قيمة وديعته، أي بملايين الدولارات. وقد دفعتها المصارف مما تبقى من أموال المودعين. هذا عدا عما تتطلب كل قضية من اختصاص ومتابعة دقيقة للتفاصيل. فهل يستطيع بعض المحامين العمل على آلاف الدعاوى بشكل مجاني وبنفس الدقة.
السرية المصرفية
أمام هذا الواقع فان الحل الوحيد هو أن تسرّع المصارف بالحل عبر إعادة الهيكلة، والاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت على مدار السنوات الماضية، وكشف كل الاوراق، وليس الإصرار على المحافظة على الوضع القائم. فلا الإضراب من جهتها، ولا الدعاوى القضائية سيشكلان حلاً. فالأول يضرب الثقة، والثاني، يمكن تمييعه ودفنه بالتنحي عن الملف، أو إقامة دعاوى مخاصمة الدولة... أو غيرها الكثير من الطرق. وبحسب ضاهر فان "رفع السرية المصرفية يشكل مدخلا للحل. ذلك أن القانون المعدّل بتاريخ 28 تشرين الاول 2022 والصادر تحت الرقم 306 يهدف إلى الاستجابة للمطالب الدولية بالحد من التهرّب الضريبي، وإخفاء الأموال الناتجة عن الفساد، والسماح بالتدقيق بالحسابات المشروعة وغير المشروعة، والكشف عن المسؤوليات في الحقبة الماضية؛ وعلى عكس كل ما يشاع فإن المادة الثانية من القانون حددت بوضوح الأطراف التي ممكن أن يطالها رفع السرية المصرفية بمفعول رجعي بدءاً من 22 أيلول 1988. ومن هذه الفئات: رؤساء مجالس إدارة المصارف ومدراءها التنفيذيين، ورؤساء مجالس إدارة الوسائل الإعلامية، والجمعيات وهيئات المجتمع المدني، بالإضافة إلى السياسيين والموظفين في الدولة. وأكثر فإن المجلس الدستوري لم يبطل مفعول الرجعية للقانون. وهو بذلك أصبح مبرماً، ولم يعد يحتمل التأويل والاجتهاد.