تمثل "لجان التخمين" حجر الزاوية في البلديات، إذ تبني عليها هذه السلطات اللامركزية إيراداتها من جهة، وتحفز الحركة العمرانية من الجهة الثانية. ومن نافل القول، إن عرقلة عمل هذه اللجان يترك تداعيات فائقة الخطورة على مجمل الدورة الاقتصادية في المدن والقرى، ويُبعد المستثمرين، ويُقلص الموارد البلدية، ويُرتد سلباً على فرص التوظيف، وتحقيق النمو والازدهار.
بعد الانتخابات البلدية الأخيرة التي جرت في أيار الماضي، قرّرت بلدية بيروت زيادة عدد لجان التخمين من لجنة واحدة يرأسها رئيس البلدية إلى ثلاث لجان برئاسته أيضاً. وقد شكّل هذا القرار بارقة أمل في توحيد عمليات التخمين وتسريع وتيرتها، لكنه في المقابل أفضى إلى تأخير مباشر في انطلاق عمل تلك اللجان. فتشكيلها استغرق أكثر من أربعة أشهر، وهو وقت أطول من المعتاد، نظراً لتداخل العوامل السياسية مع الطائفية والإدراية، والكثير من الأخذ والرد. وبعد مرور نحو شهرين على تشكيلها، لم تباشر مهامها بعد، ما أثار استياء المعنيين من مهندسين وتجار ومقاولين ومواطنين، يطالبون جميعاً بانطلاق عملها في أسرع وقت.
ما الذي يحصل؟
تتولّى لجان التخمين في بلدية بيروت تحديد سعر البيع الذي تُستوفى بموجبه رسوم رخص البناء. ويقول المهندس بشير عيتاني إنّ "أكثر من مئة طلب رخصة بناء لا تزال عالقة في أدراج البلدية منذ شهر نيسان الماضي، تاريخ انتهاء ولاية المجلس البلدي السابق وانتخاب الجديد، بانتظار اجتماع لجان التخمين وبدء عملها". ويرى عيتاني أنّ هذا التأخير "ألحق ضرراً بأصحاب العلاقة، وتسبّب بتفويت مبالغ مالية وازنة، تقدر بعشرات ملايين الدولارات، على صندوق البلدية".
يُقال الكثير عن أهمية قطاع البناء في أي اقتصاد، إلا أنّ التعبير الأدق قد يكون ذلك المأخوذ عن الثقافة الاقتصادية الفرنسية: «Quand le bâtiment va, tout va»، بمعنى أنّه عندما تنطلق أعمال البناء، تنطلق معها بقية القطاعات. فهذا القطاع مسؤول، بشكل مباشر وغير مباشر، عن تشغيل أكثر من سبعين مهنة ومصلحة، وخلق عشرات آلاف فرص العمل، ورفد صناديق البلديات وخزينة الدولة بوافر الإيرادات. وهذا التأخير في بدء الأعمال، الممتد منذ أكثر من سبعة أشهر لمئة مشروع على الأقل، ليس تفصيلاً بسيطاً يسهل تعويضه. فالاعتقاد بأنّ الأشهر السبعة وقت قصير في عمر الاقتصاديات، والتبرير بأنّ "اليوم من يوم قريب، وما لم يُنجز البارحة يُنجز في الغد"، هو أسوأ عدوّ للاستثمارات ونموّ الاقتصاد. فما لا يأخذه هذا التحليل في الاعتبار هو كلفة الفرصة البديلة Opportunity Cost وتقييم كفاءة تخصيص الموارد، ذلك أنّ الموارد، وفي مقدّمتها الوقت، محدودة. وكل قرار باستخدامها في اتجاه معيّن يعني التخلي عن منافع محتملة في اتجاه آخر.
كان من المقرر أن تبدأ لجان التخمين عملها مطلع هذا الشهر، لكنها تخلّفت عن موعدها من جديد. فها هو ثلث الشهر ينقضي دون أن تنزل هذه اللجان على الأرض. عشرات المكاتب الهندسية، التي تنتظر انطلاق ورش العمل بعد جمود فرضته الحرب لأكثر من عام، تضطر إلى دفع التكاليف التشغيلية من إيجارات وموظفين وكهرباء ومياه وضرائب، من دون أن تكون قادرة على العمل والإنتاج، وهو ما يترتب عليه خسائر "باللحم الحي" تتحملها هذه المكاتب بالمعنى الحرفي للكلمة.
دور لجان التخمين وأهميتها
تتألف كل لجنة من لجان التخمين الثلاثة من ثلاثة أشخاص: رئيس البلدية، ومندوب من وزارة الداخلية، ومهندس من بلدية بيروت. وبحسب آخر المعلومات، فقد اجتمعت هذه اللجان برئاسة رئيس البلدية وهي الآن منكبة على وضع آلية العمل، لا سيما في ما يتعلّق بضمان عدم وجود تضارب في أعمال اللجان وتقاريرها. وإن كانت الدراسات مطلوبة، "إلا أنها طالت"، بحسب عيتاني. فمن "يأكل العصي ليس كمن يعدها"، يقول بمرارة شديدة، في إشارة إلى التكاليف والخسائر التي يتحملها أصحاب المصلحة نتيجة تأخير بدء أعمال التخمين.
للجان التخمين دور فائق الأهمية، وتقييمها يؤثر مباشرة على ما يدفعه المواطن من رسوم أو ضرائب أو مستحقات، انطلاقا من الثوابت التالية:
- تُساعد البلدية أو الدولة في تحصيل إيرادات عادلة تعكس القيمة الحقيقية للعقارات أو الأراضي.
- تعتبَر جزءاً من الحوكمة المحلية، فالتخمين الدقيق والمحايد يعزّز الثقة بين المواطن والبلدية، ويُجنّب النزاعات أو الطعون القضائية.
- تلعب دوراً مهما في سياق التنمية العمرانية، فالقيم التي لا تُحدّث قد تؤدّي إلى تناقضات بين الواقع (بنايات جديدة، توسّع، تغيّر استخدام) والقيمة التي تدفع بناء عليها الرسوم.
- تضمن العدالة والشفافية، لأن التخمين يحدد ما سيدفعه المواطن، ومن المهم أن يتمّ بطريقة عادلة، محايدة، دون تضارب مصالح.
عقلنة التخمين
التسليم ببدء عمل هذه اللجان، عاجلاً أو آجلاً، يتطلب، بحسب المهندس عيتاني، مراعاة الصعوبات الفعلية التي يواجهها قطاع البناء على أرض الواقع، لا سيما انخفاض أسعار المبيعات عند الدفع النقدي مقارنة بالأسعار الموضوعة. ويشير إلى أنّ ذلك يتطلب عقلنة أسعار تخمين بيع المتر، ووضعها على أساس السعر الفعلي وليس النظري.
عادةً، كانت اللجان السابقة تقوم بتقدير السعر الفعلي لبيع المتر وضربه بـ 0.75، أي ثلاثة أرباعه، لتفادي أي ظلم لصاحب العلاقة، في حين أنّ اللجنة الأخيرة كانت تضع أسعاراً تخمينية بعيدة عن الواقع. فمثلاً، سعر المتر الذي يُقدَّر نظرياً بخمسة آلاف دولار، يتم بيعه فعلياً بأربعة آلاف دولار بسبب الجمود في القطاع وتأثير العوامل الأمنية والسياسية والاقتصادية على حركة العقارات. ويضيف عيتاني أنّ "الوضع الأمني يخفض الأسعار أيضاً، حتى في تجارة البناء، فلم تعد تُباع الوحدات كما كانت تُباع سابقاً".
التسريع في بدء عمل اللجان، وجعل التخمين عقلانياً ومراعياً لظروف الواقع، بالإضافة إلى تأهيل البنية التحتية في المدينة كلها، هي عوامل أساسية لتعزيز قطاع البناء والاستثمار فيه، ولنهضة المدينة وإعادة عجلة الاقتصاد إليها. ويرى عيتاني أن مقولة "العقار يمرض ولا يموت"، إذا ما جمعت مع المبدأ العالمي "اشترِ على صوت المدفع وبع على صوت الموسيقى"، تجعل من القطاع العقاري فرصة واعدة في هذه الأيام، شرط أن تُرفق هذه الفرص بتطبيقات عملية على أرض الواقع لإعادة الازدهار إليه.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
