يخطئ من يظن أن العجز عن إقرار الإصلاحات محصور فقط في سنوات الإنهيار الأخيرة. فسياسة الهروب إلى الأمام المبنية على الترقيع مستمرة منذ نهاية الحرب الأهلية. وجذور ما نراه اليوم من عدم كفاية الإيرادات لزيادة الإنفاق على الأجور والتقديمات تمتد إلى تسعينيات القرن الماضي. وهي تنبت كل عشرة سنوات على شكل أزمات و إضرابات واحتجاجات، وتثير الخشية على التضخم والتسبب بالمزيد من الانهيار.

تمر مؤسسات الدولة بمختلف مسمياتها الوظيفية بمرحلة احتقان وغليان تهدد بانفجارها في أي لحظة. فالوعود بزيادة الرواتب والتقديمات الاجتماعية، ما زالت حبراً على ورق. وما يطرح من حلول لا يعيد إلا بين 70 و75% من قيمة الرواتب التي كانت عليها قبل الانهيار، مقسطة على 4 سنوات حتى العام 2030. وتتضمن هذه الحلول تعديلات جذرية في نظام الموظفين وآلية تعويضات نهاية الخدمة، ومنها رفع سن التقاعد من 64 إلى 66، وتخفيض نسبة المعاش التقاعدي من راتب الموظف من 85% إلى 70%، و حرمان الإناث العازبات من المعاش التقاعدي في حال تجاوزن سن 25 عاماً.

أقصى ما تعد به خطط زيادة رواتب موظفي الدولة هو مضاعفة الرواتب 6 مرات سنوياً لتصل إلى 19 ضعفاً في نهاية العام الحالي، و43 ضعفا في العام 2030. لكن هذا المضاعفات لن تكون على شكل مرسوم كما في السنوات السابقة، إنما مشروع قانون يتطلب الإقرار في مجلس النواب. ومن غير الواضح مصير التقديمات الاجتماعية المسماة "حوافز"، وطريقة احتسابها بين المثبتين والمتعاقدين في مختلف الإدارات العامة.

زيادة الرواتب والتضخم

تحجج الدولة بدراسة الأثر الاقتصادي للزيادة على الرواتب لا تقنع الموظفين. فبحسب آخر الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان ارتفعت ودائع القطاع العام، منذ بداية هذه السنة بنسبة 42.22%، لتصل إلى 8 مليارات و510 ملايين دولار بنهاية تشرين الأول الماضي. وهذا المبلغ يفوق بنحو 3 أضعاف ما يدفع سنوياً على كامل الرواتب وملحقاتها للموظفين الفاعلين والمتقاعدين. وهو يعتبر أكثر من كاف لتمويل أي زيادة على الرواتب والأجور. إلا أن ما لا يأخذه البعض في عين الاعتبار، هو أن نحو 80 في المئة ومن ودائع القطاع العام في مصرف لبنان هي بالليرة وليست بالدولار، وأي فائض بالانفاق سيؤدي إلى ارتفاع الطلب على الدولار، إن بشكل مباشرة عبر شراء العملة الصعبة، وإما عبر زيادة الاستهلاك، التي ستتحول في نهاية المطاف إلى دولارات، نظرا لكون لبنان يستورد أكثر من 80 في المئة من البضائع والسلع من الخارج.

وإذا ما أضفنا إلى هذا العامل الحجم الهائل للكتلة النقدية بالليرة بالسوق، والتي وصلت لغاية تشرين الأول إلى حدود 71 ألف مليار ليرة، ارتفاعاً من نحو 10 آلاف مليار في بداية الانهيار، يصبح أي ضخ إضافي لليرات يشكل خطراً على سعر الصرف، وبالتالي على عودة التضخم إلى الارتفاع.

المعضلة التاريخية

الحلقة المفرغة التي يدور فيها الاقتصاد اللبناني ليست جديدة، فقد واجه مثل هذه التحديات في كل مرة كانت تتراجع فيها القيمة الشرائية للرواتب، وترتفع المطالبات لزياداتها. فـ "في العام 1991 وبعد الخروج من الحرب الأهلية قررت الحكومة زيادة رواتب العاملين في القطاع العام"، يروي النائب السابق لحاكم مصرف لبنان، د. غسان العياش، في كتابه "وراء أسوار مصرف لبنان"، ولم تعر الحكومة أي اهتمام لكون زيادة الرواتب في هذا الظرف بالذات من شأنه توسيع الكتلة النقدية ورفع الضغوط على الليرة في سوق القطع. ويضيف العياش الذي شارك في اجتماعات اللجان النيابية التي تدرس مشروع قانون زياد الرواتب، ممثلا عن مصرف لبنان، أنه شرح للنواب المخاطر التضخمية التي ستنتج عن هذه الزيادة، حيث أن "كل ليرة إضافة تنتج عن الزيادة ستؤدي إلى زيادة ثلاث ليرات إضافية في الكتلة النقدية. إلا أن أغلبية النواب أهملوا التحذيرات وأقر مشروع القانون وترك البلد يواجه مصيره".

الأمر نفسه تكرر عشية الانهيار. ففي الوقت الذي كان يواجه فيه البلد العجزين التوأمين في الموازنة وميزان المدفوعات، ويمر في أكثر أوضاعه حراجة، أقرت سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام عبر القانون رقم 46 بتاريخ 21 آب 2017. ما ضغط بشكل كبيرة على موازنة الدولة، وكانت واحدة من الأسباب التي أدت إلى الانهيار بعد عامين. فقد أدت هذه الزيادة إلى الضغط على الدولار بشكل كبير جدا، وتكفي الإشارة إلى أن إنفاق اللبنانيين على السياحة الخارجية بلغ في صيف العام التالي نحو 3 مليارات دولار بحسب بيانات نقابة وكالات السفر والسياحة.

اليوم يتكرر الأمر نفسه. الموظفون يطالبون بزيادة الرواتب، والدولة تنصاع. وهي إن صعبت الشروط قليلا، فلن تحول دون الآثار السلبية لهذه الزيادة. فمصرف لبنان الذي يرفض استنزاف المزيد من الدولارات للمساعدة على تثبيت سعر الصرف، سيلجأ إلى تحريره. وبالتالي ستؤدي زيادة الطلب على الدولار إلى تراجع قيمة الليرة، وخسارة المداخيل أي زيادة محققة، وتكبيد جميع اللبنانيين فاتورة باهظة للتضخم وزيادة الضغط على المالية العامة. والحل ليس بعدم زيادة الرواتب، إنما بتصحيحها بعد إعادة هيكلة شاملة للقطاع العام، لا تتضمن التخلص من فائض الموظفين والمؤسسات إنما التخفف من المؤسسات غير المنتجة والتي يفوق عددها الـ 70 مؤسسة، ومكننة العمل، وإصلاح الإدارة ووقف المحسوبيات.