بعد كل مرة يخبو فيها التوتر التركي الإسرائيلي أو يتراجع نتيجة التطورات، تعود نار الخلاف الى الاشتعال لتشير في شكل لا لبس فيه إلى أن أنقرة باتت اليوم التحدي الأساس بالنسبة إلى الإسرائيليين بعد كل التطورات التي حملتها الأشهر الأخيرة.

ذلك أن التحوّلات الكبرى في الشرق الأوسط في الفترة الماضية، بما في ذلك سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد وسلسلة الضربات الإسرائيلية ضد المحور الذي تتزعمه إيران، و"حماس" و"حزب الله" من أساساته، وانكفاء هذا المحور، فتحت المجال أمام عودة تركيا لاعباً إقليمياً محوريًا.

استغل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بدهاء، تلك التطورات لمصلحته، منذ الضربات الإسرائيلية في لبنان، محققاً نفوذاً إقليمياً أكبر بكثير من السابق في سوريا، يضاف الى ما حققه في أنحاء اقليمية أخرى كما في آسيا وأفريقيا.

لكن تركيا هذه المرة، وهذا ما يخشاه الإسرائيليون، لن تكون إيران جديدة في المنطقة فحسب، بل ستكون أقوى، بصفتها قائدة المحور السني، مدعومة بمظلة أميركية لم تمتلكها إيران، بجانب اقتصادي تسلحي كونها عضو في حلف شمالي الأطلسي، وهي عوامل لم تمتلكها إيران.

بذلك ستتمكن تركيا بالنسبة الى إسرائيل، من مد نفوذها، وهي ذات المنشأ الإخواني في الحكم مع "حزب العدالة والتنمية"، لتتزعم "المحور السني المتطرف" لتغيير المنطقة، في مواجهة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المعزول والمشلول أميركيا، حسب مناوئيه.

في الأسابيع الأخيرة كان لإردوغان دوره الهام في الضغط على "حماس"، الفرع الإخواني في فلسطين، للقبول برؤية الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف النار في قطاع غزة.

ويريد ترامب مكافأته وإشراك تركيا في عملية إعادة إعمار غزة وضمن قوة دولية لتثبيت الاستقرار. فهو "الرجل النبيل والحليف الموثوق"، الذي نجح في بناء علاقة شخصية براغماتية مع ترامب، جعلته يحصل على ثقته في سوريا سابقاً.

وتجهد أنقرة للعودة إلى الواجهة بعد تهميش في فترة سابقة، وسيمنح إردوغان نفسه رصيداً سياسياً داخلياً جديداً بوصفه زعيم العالم الإسلامي، كما يصوّره الإعلام الموالي له.

في حين ترفض إسرائيل بشدة ذلك وترى فيه تهديداً أمنياً مباشراً. وتتوجس من كل دور تركي في المنطقة وتراقب توسّع أنقرة شمالها بقلق، وتتهمها بدعم "حماس". ووصل الأمر الى تبادل نتنياهو وأردوغان اتهامات قاسية. ويرى اليمين في إسرائيل أن التخلص من تهديد إيران و"حزب الله" لمصلحة تركيا وقطر و"الإخوان المسلمون" داخل غزة، ليس حلاً بل سيشكل "كارثة أمنية".

وللتذكير فقد انضمت تركيا إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية ضد الاحتلال. أصدر القضاء التركي قبل أيام 37 مذكرة توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين بتهمة ارتكاب "إبادة وجرائم ضد الإنسانية" في غزة. ومن بين من تشملهم المذكرات، نتنياهو، ووزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ورئيس أركان الجيش الفريق إيال زامير.

وردت إسرائيل بشدة دبلوماسياً واصفة إردوغان بالطاغية ومستغلة الدعاوى في معركتها لمنع أي تواجد تركي في غزة.

لكنّ أنقرة تبدو مصممة، برضى أميركي، على الحصول على نصيب بكعكة ما بعد الحرب. فعلى صعيد إعادة الإعمار، ثمة فرصة اقتصادية وسياسية. وتمتلك الشركات التركية خبرة طويلة في مشاريع البنية التحتية وإزالة الأنقاض، ما يؤهلها للمشاركة في مشاريع تقدَّر بعشرات مليارات الدولارات.

وترى تركيا في دورها الجديد فرصة تاريخية لاستعادة نفوذها في الشرق الأوسط وتعزيز مكانتها لدى واشنطن.

هجوم تركي معاكس.. وتحفظات عربية

في الأثناء ظهر مؤشر جديد على النية التركية عبر هجوم معاكس شنته أنقرة بعد أيام على مؤتمر شرم الشيخ.

ففي إسطنبول اجتمع وزراء دول إسلامية هي تركيا والسعودية وقطر والإمارات والأردن وباكستان وإندونيسيا، ودعوا إلى تسريع جهود المصالحة الفلسطينية، وتسليم إدارة غزة إلى السلطة الوطنية ضمن تفاهمات فلسطينية – فلسطينية برعاية إسلامية. مع اشتراط حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية لأي تسليم إداري للقطاع، ومع اقتراح آليات رقابة ولجان متابعة تضمن تنفيذ المرحلة الثانية من الخطة.

كان ذلك ردَّ تركيا على إسرائيل بصفة أنقرة الضامن مع قطر لـ"حماس"، في إطار موقف عربي وإسلامي، قبل أي لجوء الى مجلس الأمن بشأن عمل القوة الدولية المزمع إرسالها إلى غزة والتي تطلب تركيا المشاركة فيها.

وسبقت المؤتمر جولة سريعة لإردوغان في قطر والكويت وسلطنة عُمان، لاستكمال أسلحة الدعم لديه ولحشد التأييد لتأمين صفقات التجارة والاستثمار والطاقة والدفاع.

لكن إسرائيل تراهن ايضا على توجُّس بعض العرب تجاه أي دور تركي توسُّعي في غزة.

فالدور العربي في الإعمار كان مكتوباً منذ الحرب للسعودية والإمارات، بينما ثمة تحفظات على قطر نفسها.

ويعتبر الإسرائيليون أن الوجود التركي سيعني وجوداً عسكرياً خطيراً لـ"حماس" نفسها يرفضه العرب مثل الرياض وأبو ظبي وعمّان. وكانت رسالة أقطاب اليمين لهؤلاء بأن نشر الجيش التركي داخل غزة يعني وضع قوة من مستوى حلف الناتو جنبا إلى جنب مع "حماس"، ما يوفّر لها فرصة غير مسبوقة لتأمين الأسلحة والمؤن والحصول على قوة قتالية محترفة. ما يعني حكما حماية لـ "حماس" وتعزيزاً لحكمها.

سيبلغ الكباش التركي الإسرائيلي مداه وقد تتمكن إسرائيل من ركن أنقرة جانباً، أو قد تُعالج مسألة المشاركة التركية من خلال منح الجانب التركي دوراً أوسع في الشق السياسي والاقتصادي والإنساني ومشاريع الإعمار، أو دوراً لوجستياً وربما مراقبة ممرات المساعدات من دون انتشار عسكري.

وإذا ما أُجبرت إسرائيل على هذا الدور فإن ذلك سيؤشر إلى طبيعة المرحلة المقبلة على صعيد الكباش مع تركيا، ليس في غزة فحسب بل في الملعب الكبير في سوريا.. حيث المعركة الأهم في الحرب الباردة الإقليمية بين إسرائيل الكبرى والعثمانية الجديدة.