الشفافية، المساءلة، الحوكمة الرشيدة، حكم القانون، الانتظام المؤسساتي والمالي، السيادة وغيرها من المصطلحات، يكثر استخدامها في الخطابات والمواقف وتغيب عن أرض الواقع في لبنان الذي انشغل سياسيّوه واقتصاديّوه ومواطنوه في الساعات الماضية بمشروع قانون "الانتظام المالي واسترداد الودائع" الذي تناقشه الحكومة والذي يعرف بـ "قانون الفجوة المالية". إلا أن لبنان اليوم دولة قائمة على فجوات وليس فجوة واحدة. الأخطر أنه يتم اعتماد سياسات "الترقيع" لمعالجة هذه الفجوات، كما أن نهج "الترويكا" القائم على "لويا جيرغا" بين بعبدا والسراي وعين التينة يُستحضر للمساعدة في ذلك.
فجوة مالية تفجّرت بشكل غير مسبوق بعد 17 تشرين الأول 2019 وما تبعها من انهيار وكانت قبل ذلك التاريخ تعالج بالهروب إلى الأمام عبر هندسات مالية ورفع الفوائد المنفوخة ومراكمة الديون وسلسلة رتب ورواتب في بلد لا نمو فيه. بعد هذا التاريخ تمّ تعميقها عبر سوء إدارة الأزمة وسياسات الدعم والتهرب من اتخاذ إجراءات جريئة وملحّة كالـ capital control .
لبنان اليوم دولة قائمة على فجوات وليس فجوة واحدة. الأخطر أنه يتم إعتماد سياسات "الترقيع" لمعالجتها.
المقلق أنّ ما يطرح اليوم مع العهد الجديد الذي علّق عليه اللبنانيون آمالهم، هو ترقيع على حساب أموال المودعين وجنى العمر عوض حلّ جذري لهذه الفجوة. فالطرح لا يقتصر على إرجاع قسم من أموالهم تحت الـ 100 ألف دولار بـ "القطارة" بعدما فقدت عملياً قيمتها الشرائية، بل عبر إغراق ما تبقى بمستنقع السندات والأسهم. الأسوأ هو الهرولة لإقرار هذا "القانون" كـ "تهريبة" من دون تحديد المسؤوليات عن الانهيار ومحاسبة المرتكبين ومع تحميل المودع جزءاً كبيراً من الخسائر عوض حصرها بالثلاثي المعني بالانهيار الدولة والمصرف المركزي والمصارف.
فجوة سياسية بين ضرورة أن يدار لبنان من قبل رجالات دولة وبين سياسيين يمتهنون "المسايرة" و"تبويس اللحى" و"تركيب الطرابيش" و"غضّ النظر". فها هي "الترويكا" تطل برأسها من جديد في ظل العهد الحالي على حساب احترام القوانين والدستور وها نحن نعود الى "التشاطر" والالتفاف على الحقائق تحت شعار "طائفة مجروحة" من هنا أو "الخوف من حرب أهلية" من هناك.
صحيح أن ثمة سقوفاً سيادية رسمت وتحدّد الإطار لإنطلاق الدولة كما جاء في خطاب القسم والبيان الوزاري وجلسة 5 آب لحصر السلاح، لكن يتخوّف اللبنانيون من "ميوعة" في التنفيذ تدفع المجتمع الدولي إلى التشكيك بقدرتنا وربما حتى صدقيتنا. خير دليل مطالبته بآلية عملية لتفعيل "الميكانيزم" للتأكد من مدى جدية وجدوى الخطوات التي يقوم بها الجيش اللبناني وفق ما جاء على لسان الموفد الفرنسي جان إيف لودريان خلال حديث عن الاجتماع الذي استضافته باريس وجمع الولايات المتحدة والسعودية وفرنسا وقائد الجيش اللبناني. وكان وزير الخارجية المصري بدر أحمد محمد عبد العاطي ألمح إلى ذلك أيضاً.
الأسوأ أن آلية التعيينات التي أقرتها الحكومة لا تلتزم بها ما ينسف مصداقية التعيينات ويضرب صورة العهد والحكومة
فجوة أمنية وعسكرية، بين الدعوة الى بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وامتلاكها حصرية السلاح واحتكارها قرار الحرب والسلم وتنفيذ قرارات جلسة 5 آب السيادية وبين الحديث عن "احتواء" واستيعاب وتجميد سلاح "حزب الله" والتروي في معالجة السلاح الفلسطيني في المخيمات. هذا الفجوة مرتبطة بصرامة القرار وليس بالقدرة على تنفيذه وخير دليل نجاح الجيش اللبناني في القضاء على "حيتان" عصابات المخدرات والسرقة والسلب التي تسرح وتمرح في البلاد منذ قيام جمهورية الطائف.
فجوة في القضاء والإدارة، حيث الوعود بالتطهير ورفع الغبن عن الأكفاء النزهاء لم تترجم جدياً حتى اللحظة. لا بل الأسوأ أن آلية التعيينات التي أقرتها الحكومة لا تلتزم بها وما يلزمها بها أحياناً هو شخصية الوزراء. هذا الانتهاك للآلية ينسف مصداقية التعيينات ويضرب صورة العهد والحكومة ويعيدنا إلى قعر المحاصصة والزبائنية. آخر التعيينات المخالفة للآلية صدر عن جلسة مجلس الوزراء في 22/12/2025 عبر تعيين رئيس وأعضاء مجلس إدارة مؤسسة "إيدال" بعدما تم تعيين رئيس لمجلس إدارة مصلحة الأبحاث الزراعية ورئيس للّجنة الإدارية لمكتب تنفيذ المشروع الأخضر في وزارة الزراعة سابقاً وجورج معرّاوي مديراً عاماً لوزارة المال في جلسات لمجلس الوزراء سابقاً.
ها هو العام 2025 يطوي صفحاته ولبنان يتخبط بكل تلك الفجوات ويواصل سياسات "الترقيع". فهل ينتفض العهد على هذا الواقع قبل فوات الأوان ويستعيد زخمه ويجدّد الأمل بقيام دولة على قاعدة القانون والعدالة والمواطنة والشفافية التي لا تعرف فجوات.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
