يشهد القطاع التكنولوجي في لبنان نهضة استثنائية خلال العام الجاري، تؤكد أن هذا القطاع بات يشكّل أحد أبرز محركات النمو الاقتصادي في البلاد رغم الأوضاع الصعبة. فبحسب البيانات الحديثة، ارتفع عدد الوظائف في المجال التكنولوجي بنسبة 19.3%، ما يعكس توسعاً ملحوظاً في مجالات التمويل الرقمي، والبرمجة، والذكاء الاصطناعي، وهي قطاعات تشهد طلباً متزايداً على الكفاءات والمهارات الرقمية المتقدمة.

رواتب تنافسية وفرص واعدة

أحد أبرز مظاهر هذا النمو يتمثل في الرواتب العالية التي يقدمها القطاع مقارنةً ببقية المجالات في لبنان، إذ تصل رواتب مهندسي الذكاء الاصطناعي إلى نحو 80 ألف دولار سنوياً، وهو رقم كبير بالنظر إلى متوسط الدخل في السوق المحلية. ويؤكد هذا الرقم ارتفاع الطلب على المهارات المستقبلية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والتحوّل الرقمي.

أما مهندسو البرمجيات، فتشير البيانات إلى أن متوسط رواتبهم يتراوح بين 31و37 ألف دولار سنوياً داخل لبنان، في حين ترتفع الأرقام بشكل كبير لمن يعملون مع شركات إقليمية أو دولية عن بُعد من بيروت، ما يجعل هذه الفئة من الوظائف منافسة للأسواق الخارجية. وتُظهر الشركات التقنية اهتماماً خاصاً بالخبرات في لغات البرمجة مثل Python وReact، التي تُعدّ الأكثر طلباً في السوق.

يقول الياس الأشقر خبير التحول الرقمي، في حديثه لـ"الصفا نيوز"، إن قطاع التكنولوجيا في لبنان "يُظهر دينامية لافتة رغم الأزمات، لأنه يعتمد على رأس المال البشري لا على الموارد المادية".

ويضيف: "ما يميّز السوق اللبنانية هو مرونة الكفاءات المحلية وقدرتها على العمل مع شركات عالمية من دون مغادرة البلاد. اليوم نرى مهندسين ومبرمجين لبنانيين يعملون لمؤسسات في أوروبا والخليج، ويجلبون عملة صعبة إلى الاقتصاد اللبناني، ما يجعل هذا القطاع من أكثر القطاعات استراتيجية في المرحلة المقبلة."

النساء في التكنولوجيا: حضور متزايد

في مشهد يندر في المنطقة، تشكل النساء حوالي 27% من القوى العاملة في قطاع هندسة البرمجيات في لبنان، وهي نسبة تتجاوز المعدلات العالمية. هذا الحضور النسائي اللافت يعزز التنوع والابتكار في بيئة العمل التقنية، ويؤكد أن التكنولوجيا باتت مساحة مفتوحة أمام الجميع، بعيداً عن الصورة النمطية التي كانت تحصر هذا المجال بالرجال.

الشباب يقودون التحول الرقمي

يشكّل الشباب العمود الفقري لهذا القطاع، إذ يتراوح عمر 82% من العاملين في التكنولوجيا بين 21 و34 سنة. هذه النسبة المرتفعة تبرز طاقة شبابية متجددة تواكب أحدث الاتجاهات التكنولوجية، وتسهم في بناء مستقبل رقمي واعد للبنان. كما أن نحو 46.1% من المهنيين يعملون عن بُعد، في انسجام تام مع التوجهات العالمية الجديدة نحو المرونة المهنية والعمل من أي مكان.

الذكاء الاصطناعي في قلب العمل اليومي

تؤكد الدراسات أن 81،8% من مهندسي البرمجيات في لبنان يستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي يومياً في أعمالهم، سواء في تطوير البرمجيات أو تحليل البيانات أو تحسين الأداء. هذا الانخراط العميق في تقنيات الذكاء الاصطناعي يعكس استعداد السوق اللبناني للتحول الرقمي الكامل، ويمنح الشركات المحلية قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية.

آفاق مستقبلية رغم التحديات

على الرغم من العقبات المستمرة مثل ضعف البنية التحتية والتقلبات الاقتصادية، يثبت قطاع التكنولوجيا أنه من أكثر القطاعات مرونة وقدرة على التكيّف. فبفضل العمل عن بُعد والتعاون مع شركات دولية، استطاع المهندسون والمبرمجون اللبنانيون تجاوز الحدود الجغرافية وخلق فرص عمل عالمية من داخل البلاد.

في المحصّلة، يُعدّ قطاع التكنولوجيا في لبنان اليوم نافذة أمل حقيقية للاقتصاد الوطني، فهو لا يوفر فقط فرص عمل عالية الأجر، بل يشكل أيضاً منصة تمكينية للشباب والنساء، ومحركاً أساسياً في مسيرة التحول الرقمي. ومع استمرار دعم الشركات الكبرى والمبادرات التدريبية المتقدمة، يمتلك هذا القطاع الإمكانية ليصبح أحد أهم أعمدة الاقتصاد اللبناني في المستقبل، ومثالاً على كيف يمكن للابتكار أن يزدهر حتى في أصعب الظروف.