يشكّل ملف الأيتام في لبنان أحد أكثر الملفات الإنسانية إلحاحاً، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد منذ سنوات. فبحسب البيانات المتداولة، يبلغ عدد دور الأيتام في لبنان نحو 220 داراً، فيما تبيّن الإحصاءات أنّ 90% من الأطفال الموجودين فيها ليسوا أيتاماً فعلياً، بل ينتمون إلى عائلات فقيرة أو مفكّكة أسرياً غير قادرة على تأمين احتياجاتهم الأساسية.
فقر متعدد الأوجه… ودور اجتماعي مثقل بالمسؤوليات
تتولّى وزارة الشؤون الاجتماعية الإشراف على دور الأيتام ورعايتها، إلا أنّ قدرتها التمويلية لا تغطي إلا 40% من نفقاتها، ما يضع الدور أمام تحدٍّ كبير في تأمين الموارد لاستكمال خدماتها. أما النفقات المتبقية، فتعتمد على تبرّعات الجهات المانحة، وهي موارد غير ثابتة ومرتبطة بالظروف الاقتصادية والسياسية.
هذا الواقع يكشف أزمة مزدوجة:
— فقر أسري يزداد حدة، ما يدفع آلاف الأطفال إلى مؤسسات الإيواء لأن منازلهم عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
— مؤسسات تعمل بأقصى طاقتها لكنها تواجه ضغوطاً مالية هائلة تهدّد استمراريتها وتؤثر على جودة الرعاية التي تقدّمها.
معاناة الأطفال… بين غياب العائلة ونقص الموارد
لا تقتصر معاناة الأطفال في دور الأيتام على غياب أحد الوالدين أو كلّيهما، بل تتعداه إلى:
— الحرمان العاطفي نتيجة انفصالهم عن بيئة أسرية طبيعية.
— غياب الدعم النفسي المنتظم رغم التحديات السلوكية التي قد يعاني منها كثير من الأطفال.
— التفاوت الكبير في جودة الرعاية بين مؤسسة وأخرى وفقاً لمستوى التمويل.
— نقص تدريب الكوادر بسبب محدودية الموارد المالية.
— الوصمة الاجتماعية التي تلاحق الأطفال عند خروجهم من الدور.
هذه الصعوبات تجعل من موضوع الأيتام قضية حقوقية واجتماعية تتجاوز حدود العمل الخيري.
كيف تتعامل دول العالم مع ملف الأيتام؟ نماذج ناجحة
في العديد من الدول المتقدمة، تغيّر مفهوم رعاية الأيتام جذرياً، وانتقلت السياسات من الإيواء في مؤسسات مغلقة إلى نماذج جديدة أكثر إنسانية ودعماً للاندماج الاجتماعي:
— النموذج الإسكندنافي (السويد والنرويج)
تركّز هذه الدول على:
— رعاية بديلة (Foster Care) يتم فيها إلحاق الطفل بعائلة مؤهلة.
— دعم مالي كبير للعائلات الحاضنة.
— إشراف مهني دائم من اختصاصيين اجتماعيين ونفسيين.
النتيجة: انخفاض كبير في عدد الدور التقليدية، وزيادة نسب الاندماج والاستقرار النفسي للأطفال.
— بريطانيا
تطبّق برنامج “Every Child Matters” الذي يضمن:
— حماية الطفل.
— صحته النفسية والجسدية.
— تطوير مهاراته التعليمية.
— توفير بيئة أسرية بديلة متى أمكن.
الدولة تتحمل الجزء الأكبر من التمويل، ما يضمن استقرار الخدمات.
— كندا
تعتمد نموذج “العائلة الممتدة”، إذ تُشجَّع العائلات المرتبطة بالطفل (أقارب من الدرجة الثانية أو الثالثة) على رعايته بدلاً من إرساله إلى مؤسسة، مع تقديم دعم مادي وتأهيلي.
نحن بحاجة إلى التحوّل من الإيواء إلى الرعاية الإنسانية الشاملة
يرى الخبير الاجتماعي د. شادي مراد في حديثه لموقع «الصفا نيوز» أن لبنان يحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة لسياسات التعامل مع الأيتام، مشيراً إلى أنّ:
“نحو 90% من الأطفال في دور الأيتام هم ضحايا الفقر وليسوا أيتاماً. وهذا يعني أن الحلّ الأساسي ليس بناء المزيد من المؤسسات، بل إنشاء برامج دعم مباشر للعائلات الفقيرة كي تبقى مع أطفالها. الاستثمار في الأسرة أقل كلفة وأفيد اجتماعياً من إيواء الأطفال.”
ويضيف أن استمرار الأزمة الاقتصادية سيؤدي إلى ارتفاع عدد الأطفال المعرّضين لخطر الانفصال عن عائلاتهم، ما يتطلّب:
— تمويل دولي مستدام لدور الرعاية.
— برامج دعم نفسي وتعليمي للأطفال.
— خطط حكومية تمنع تفكك الأسر عبر مساعدات مادية منتظمة.
مسؤولية مجتمع ودولة
قضية الأيتام في لبنان ليست ملفاً إنسانياً معزولاً، بل مرآة لواقع اجتماعي واقتصادي مأزوم. الأطفال الذين يدخلون دور الرعاية اليوم قد يصبحون شباب الغد الذين يواجهون الحياة بلا دعم ولا إعداد كافٍ.
الاهتمام الحقيقي يبدأ من الأسرة… ومن سياسات تحميها. فإذا لم تتدخل الدولة والمجتمع بعمق، فإن الأرقام لن تعكس فقط معاناة، بل أزمة مستقبلية تهدد جيلاً كاملاً.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
