من لاءات قمة الخرطوم الثلاث "لا للسلام"، "لا للاعتراف"، "لا للمفاوضات" مع إسرائيل، في أعقاب الخسارة في حرب 1967، إلى قبول الرئيس جمال عبد الناصر "مبادرة روجرز للسلام" وتوقيع اتفاقات كمب ديفد ثم مؤتمر مدريد واتفاقات أوسلو إلى الانتفاضات الفلسطينية وحرب 2006 و"طوفان الأقصى" و"حرب الإسناد"، إلى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة قبل يومين، تطوّرت المواقف والسياسات العربية حيال السلام مع إسرائيل، وتطوّرت السياسة الأميركية أيضاً.

وإذا كانت السياسات العربية قد أدّت بالدول العربية إلى اتفاقات سلام تحت الضغط وفقدان الأرض، فإن السياسة الأميركية المتعلقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني وإنشاء دولة فلسطينية مرّت بعدة مراحل كان فيها الدعم الأميركي لإسرائيل يزداد سنة بعد سنة.

الاصطفاف الاستراتيجي (1948 - 1967)

حدد اعتراف الرئيس هاري ترومان بإسرائيل بعد 11 دقيقة فقط من إعلان قيامها سابقة بالغة الدلالة، لأنه كشف فعالية ضغط الحركة الصهيونية على صناعة القرار في واشنطن. ومع انجراف الأنظمة العربية إلى مدار الاتحاد السوفياتي، اقتربت الولايات المتحدة أكثر من إسرائيل كحليفة موثوقة. وفي أزمة السويس عام 1956 حدث تحول كبير حين أجبر الرئيس أيزنهاور إسرائيل وبريطانيا وفرنسا على الانسحاب من سيناء مفتتحاً عهد النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط محل النفوذ الأوروبي.

"العلاقة الخاصة " (1967 – 1991)

كانت حرب 1967 نقطة تحول إذ أظهر انتصار إسرائيل الحاسم براعتها العسكرية وعزّز قيمتها الاستراتيجية للولايات المتحدة التي أصبحت مصدر سلاحها الرئيسي ودرعها الدبلوماسي. وقد أسس قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، في تشرين الثاني 1967، مبدأ "الأرض مقابل السلام"، ليصبح حجر الزاوية في جميع جهود السلام اللاحقة.

في عام 1978، وقّع الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء إسرائيل مناحم بيغن اتفاقات كامب ديفيد التي كان الرئيس جيمي كارتر الوسيط فيها. خرج أكبر جيش عربي من الصراع وأثبت كارتر أن السلام الثنائي ممكن. وعزز هذا دور الولايات المتحدة كوسيط لا غنى عنه.

عمّق عهد الرئيس ريغان "الإجماع الاستراتيجي" مع إسرائيل. ولكنه رغم شدة تأييده لإسرائيل، أعلن دعمه لوطن للفلسطينيين في اتحاد مع الأردن وعارض المستوطنات الإسرائيلية.

عصر أوسلو وانهياره (1991 - 2000)

عصر ما بعد الحرب الباردة بدأ بمؤتمر مدريد (1991)، إذ استخدم الرئيس جورج بوش الأب النفوذ الأميركي، بما في ذلك التهديد بوقف ضمانات القروض لإسرائيل، لإجبارها على حضور مؤتمر سلام تاريخي متعدد الأطراف. وفيما تحمّس الرئيس بيل كلينتون لاحقاً للمفاوضات السرية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية التي أنتجت اتفاقيات أوسلو عام 1993، كانت سياسته تتمثل في قيادة عملية سلام تدريجية نحو اتفاق وضع نهائي. وعززت هذا التفاؤلَ معاهدةُ السلام بين إسرائيل والأردن في عام 1994. ومع ذلك، فشلت جهود الرئيس كلينتون المكثفة للتوسط في صفقة نهائية بين إيهود باراك وياسر عرفات في عام 2000. وأتى اندلاع الانتفاضة الثانية على ذلك التفاؤل، وخلق عدم ثقة متبادلاً لا يزال قائماً حتى اليوم.

الأحادية والجمود (2000 - 2016)

بعد أحداث 11 أيلول 2001 هيمن إطار "الحرب على الإرهاب" على السياسة الأميركية. أصبح الرئيس جورج بوش الإبن أوّلَ رئيس أميركي يدعو صراحة إلى دولة فلسطينية لكنه عزل ياسر عرفات، الذي رآه متورطاً بالإرهاب. ودعمت إدارته الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من غزة في عام 2005.

أما الرئيس باراك أوباما فسعى في البداية إلى إعادة تنشيط عملية السلام، مطالباً بتجميد كامل للمستوطنات ومخاطبة العالم الإسلامي مباشرة. ومع ذلك، أدت مناوشاته المتكررة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إفشال هذه الجهود. وفي كسر للتقليد، امتنعت إدارة أوباما عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 2334 في عام 2016 الذي يدين المستوطنات الإسرائيلية، فصدر.

تحول ترامب وتحوّل النموذج (2017 - 2020)

افترقت إدارة ترامب عن سياسة تأييد الحزبين لإسرائيل التي استمرت عقوداً، فاعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقلت السفارة الأميركية إليها، وقطعت المساعدات عن الفلسطينيين، واعترفت بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان. وتجاوزت خطتها "السلام من أجل الازدهار" الفلسطينيين وسلطتهم ومنظمة التحرير. وأيدت ضم إسرائيل تجمعات استيطانية كبيرة ووادي الأردن، مقترحة دولة فلسطينية منزوعة السلاح على 70% غير مترابطة على أراضي الضفة الغربية، مع الحفاظ على سيطرة أمنية إسرائيلية ساحقة. وجعلت أمر قيام الدولة مرهوناً بتلبية الفلسطينيين شروطاً صارمة، بما في ذلك نزع السلاح الكامل والاعتراف بإسرائيل كـ"دولة يهودية". رُفضت الخطة باعتبارها "أساساً لدولة غير قابلة للاستمرار".

هل من نهاية في الأفق؟

أصبح حل النزاع اليوم صعباً للغاية. ميزان القوة راجح لمصلحة إسرائيل، وهي قوة إقليمية عسكرية واقتصادية بدعم أميركي لا يتزعزع. والفلسطينيون منقسمون سياسياً وضعفاء اقتصادياً، ومعزولون دبلوماسياً. أي حل يتطلب إعادة موازنة المعايير. فتوسُّع المستوطنات قوّضت إمكانية قيام دولة فلسطينية ذات معنى. ولإنقاذ حل الدولتين، يجب وقف نمو المستوطنات وربما عكسه - وهو إجراء غير مقبول سياسياً حالياً في إسرائيل. بدلاً من ذلك، يتعيّن البدء بنقاش جِدّيّ لقيام دولة واحدة بقوميتين لهما حقوق متساوية، على الرغم من أن الأمر يتناقض مع أهداف الإسرائيليين والفلسطينيين على السواء.

على أي حل قابل للاستمرار أن يعالج القضايا الأساسية، أي حدود تستند إلى خطوط 1967 مع تبادل متكافئ للأراضي، والقدس عاصمة مشتركة لدولتين، وحل عادل للاجئين يرتكز إلى حقهم في العودة إلى الدولة الفلسطينية الجديدة، والتعويض، وإعادة التوطين، مع عودة عدد رمزي فقط إلى إسرائيل، إضافة إلى ترتيبات أمنية تضمن أمن إسرائيل مع إنهاء الاحتلال العسكري لحياة الفلسطينيين.

وعليه، هل يمكن أن يشكّل اتفاق غزة قاعدة لحل شامل؟

رفْضُ الدول العربية الحلول التي عرضت عليهم تباعاً للسلام مع إسرائيل منذ قيامها عام 1948 ساهم في خلق أمر واقع جعل كلّ عرض أقلَّ من سابقه بالنسبة إلى مساحة الدولة الفلسطينية. فهل سينجح الفلسطينيون، مع العرب هذه المرة، في وقف مسلسل التراجع وفي تحقيق الطموحات المنشودة على صعيد الدولة الفلسطينية الموعودة؟