عادت العلاقات الصينية اليابانية إلى الواجهة مرة أخرى في الجغرافيا السياسية في شرق آسيا عقب خلاف دبلوماسي درامي بداية شهر تشرين الثاني الحالي. وقد سبّب الخلاف تبادل البلدين إطلاق التحذيرات، ورداً انتقامياً اقتصاديّاً، وخطاباً حادّاً حول تايوان والمظالم الصينية التاريخية. تعكس هذا الخلاف المتجدد يعكس التوتر الحالي ويعكس أيضاً تاريخاً معقداً يمتد لعدة قرون بين البلدين – وهو تاريخ يستمر في توجيه تفاعلاتهما وربما خربطة ميزان القوى في آسيا.

علاقات مضطربة

العلاقات الصينية اليابانية معقدة بطبيعتها، متجذرة في أحقاد تاريخية تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. خاضت الدولتان عدة حروب، لعلّ أشهرها وأقساها الحرب الصينية اليابانية الثانية (1937-1945) التي تركت جراحاً عميقة في الذاكرة الصينية بسبب فظائع الجيش الياباني. بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت اليابان تحولاً سلمياً تحت الاحتلال الأميركي، بينما مرت الصين بتحول ثوري عميق. ثمّ برزت الدولتان كقوتين إقليميتين في العقود التالية، لكن أنظمتهما السياسية، ومصالحهما الاستراتيجية، وسردياتهما التاريخية غالباً ما تصطدم.

استؤنفت العلاقات الدبلوماسية العادية في عام 1972. ومع ذلك، فإن النزاعات الإقليمية، لا سيما حول مجموعة جزر تسميها اليابان جزر سينكاكو فيما تسميها الصين دياويو، وقضايا الذاكرة الحربية المستمرة، أشعلت التوترات بشكل متكرر، وهو ما أعاق التعاون الأعمق. هذا التاريخ المشحون يعزز الشكوك المتبادلة وتصاعد التوترات الدبلوماسية اليوم.

تركيز على تايوان

ما أثار الأزمة الحالية تصريحاتٌ أدلت بها رئيسة الوزراء اليابانية، ساناي تاكايتشي، في أوائل هذا الشهر قالت فيها إن هجوماً صينياً على تايوان قد يدفع اليابان إلى رد عسكري. هذا الموقف صريح، لا يترك مجالاً للالتباس ويخالف الغموض الاستراتيجي الذي اعتمدته اليابان طوال عقود بشأن تايوان التي تريد من العالم الاعتراف باستقلالها فيما تعتبر الصين ذلك خطّاً أحمر. وقد لجأت اليابان إلى الغموض الاستراتيجي لتجنب استفزاز الصين.

دانت الصين هذه التصريحات على الفور ووصفتها بأنها انتهاك خطير لمبدأ "الصين الواحدة" وتهديد مباشر لأسس العلاقات الصينية اليابانية.

وردت الصين على الموقف الياباني بمجموعة من الإجراءات الانتقامية، شملت تعليق واردات المأكولات البحرية من اليابان، وهو ضربة كبيرة للمصدّرين اليابانيين، وتحذيرَ مواطنيها بعدم السفر إلى اليابان لأسباب أمنية، وإرسال دوريات لحرس السواحل حول الجزر التي تتنازعها الدولتان، وتأجيل الاجتماعات الرفيعة المستوى في قمة مجموعة العشرين، وهو ما برّد المساعي الدبلوماسية.

صدى تاريخي

لا تعمل الصين أو اليابان في فراغ. تستند المواجهة هذه السنة إلى سنوات من النشاط العسكري الصيني المتزايد حول جزر جنوب غرب اليابان وتغيُّر السياسة الدفاعية اليابانية. فورقة الدفاع اليابانية التي صدرت في تموز الماضي، ترى في موقف الصين "تحدياً استراتيجياً غير مسبوق وأكثر تهديدًا"، وتحمل تحذيرات صريحة بأن حالة الطوارئ العسكرية المتعلقة بتايوان ستعتبر تهديداً مباشراً لبقاء اليابان.

تخلت اليابان عن عصر السِلْم الذي كان متجذراً في دستور ما بعد الحرب خلال العقد الماضي لمصلحة دور أوسع لقوات الدفاع الذاتي والتعاون العسكري الأقرب مع الولايات المتحدة. جاء ذلك في ظل قلق متزايد من تحديث الجيش الصيني، وتحرّكاته في بحر الصين الشرقي، وطموحاته في شأن تايوان.

أرسى الزعيم الصيني شي جين بينغ حكْماً وطنيّاً متشدّداً، أعاد إبراز المظالم التاريخية، واستحضر ذكريات "العدوان الياباني" الذي بدأ قبل الحرب العالمية الثانية، وعزّز قدراته، خصوصاً العسكرية، حول الأراضي المتنازَعة. وكلّما اندلعت أزمة دبلوماسية، تذكّر بيجينغ طوكيو باستمرار "التوبة عن تاريخ العدوان وكسب ثقة الجيران"، فيما تنمّي قوتها.

الاعتماد الاقتصادي مقابل المنافسة السياسية

على الرغم من هذا التنافس الاستراتيجي والتاريخي المتعدد الأوجه، تظل الصين واليابان متشابكتين اقتصادياً تشابكاً عميقاً. ومع أن الصين فاقت اليابان في ناتجها المحلي الإجمالي، تظل اليابان مستثمراً وشريكاً تجارياً رئيسياً. ولذا، يُظهِر حظر السفر الصيني وتعليق واردات المأكولات البحرية كيف يظل الاقتصاد سلاح الصين المفضَل، لآنه مصمَّم للتأثير داخلياً وزعزعة استقرار صانعي السياسات اليابانيين.

تعرف اليابان من جانبها أن العقوبات الاقتصادية وحدها لا يمكن أن تغيّر بيئة الأمن. ويرى مخططو الدفاع اليابانيون أن التحديث العسكري السريع للصين يطمس الحدود بين التنافس الاقتصادي والمنافسة الاستراتيجية الصريحة.

تداعيات جيوسياسية: آسيا وما بعدها

الخلاف الحالي ليس قضية ثنائية فقط؛ بل له تداعيات إقليمية. تقع قضية تايوان في قلب المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين. تدعم واشنطن تحديث الدفاع الياباني كجزء من تحالفها الرامي لردع الصين، وتعكس التصريحات اليابانية الأخيرة بشكل جزئي هذا التوافق مع مصالح الولايات المتحدة في مواجهة الضغوط الصينية.

كذلك، تجد دول إقليمية أخرى مثل كوريا الجنوبية نفسها في مأزق دبلوماسي، ممزقة بين علاقاتها الاقتصادية مع الصين وشراكاتها الأمنية مع اليابان والولايات المتحدة. يضيف التوتر الحالي طبقة إضافية من عدم اليقين على مضيق تايوان، وبحر الصين الشرقي، وبشكل أوسع ضفّتَي المحيطَين الهندي والباسيفيكي، حيث قد تؤدي أي أخطاء في الحسابات إلى تصعيد التوتر وربما اندلاع النزاع.

نحو حقبة استراتيجية جديدة

تجسد الحلقة الأخيرة منعطفًا هامّاً في العلاقات الصينية اليابانية. فتخلّي القيادة اليابانية عن الغموض بشأن تايوان يشير إلى تصاعد العزيمة وارتفاع المخاطر في المنافسة الإقليمية. وردُّ الصين الحازم، الذي جمع بين الإشارات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية، يبرز عزيمتها في مواجهة ما تعتبره محاصرة ومعاقبة "الاستفزاز" بشأن تايوان.

يبقى احتمال الحرب منخفضاً حالياً، ويحذّر الجانبان من تصعيد كارثي وضرر العلاقات الاقتصادية. ومع ذلك، تختبر الأحداث الحالية اليقينيات القديمة، أي فصل الاقتصاد عن السياسة، واستراتيجية الغموض اليابانية، ودور التحالف مع الولايات المتحدة، كما لم يحدث من قبل.

ما يحدث بين الصين واليابان في الأشهر المقبلة لن يحدّد فقط مسار علاقاتهما الثنائية، بل سيرسم أيضاً موازين القوى في آسيا وسلاسل الإمداد العالمية وفرص السلام أو المواجهة في مضيق تايوان وما بعده.

يترقب العالم كيف يدير عملاقا آسيا مخاطر الماضي وتحديات الجغرافيا السياسية الحديثة.