من المؤكد أن هناك جهوداً دبلوماسية كبيرة تبذل لتأمين لقاء في البيت الأبيض بين رئيس الجمهورية العماد جوزف عون والرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي قال إنه ينوى دعوة الرئيس اللبناني إلى البيت الأبيض.
يقد يكون اللقاء المرتقَب بين عون وترامب تلقائياً طبيعياً خصوصاً بعد استقبال ترامب وليَّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وقبله الرئيس السوري أحمد الشرع، لأن ملف لبنان كان حاضراً في هذين اللقاءين. كان عون يرغب في لقاء ترامب في ايلول الماضي على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك ليشرح له حقيقة ما يجري باعتبار أن ما يصله من "بخاخي السم" الذين تحدث عنهم عون أخيرا مجافٍ للواقع ويعيق تحقيق السلام اللبناني.
ويبدو أن المبادرة ـ الحل التي طرحها الرئيس عون في رسالته إلى اللبنانيين من أرض الجنوب لمناسبة العيد الثاني والثمانين للاستقلال حركت المياه الدبلوماسية الراكدة، وإن كانت إسرائيل قد ردت عليها في اليوم التالي بقصف جوي طال شمال الليطاني جنوباً وبقاعاً.
الرئيس عون قال في كلمته إن لبنان يعيش "انطباعَين متناقضَين يبتعدان عن الحقيقة ومنافيَين لجوهر الاستقلال". لم يسمِّ احدا ولكن الجميع عرف أنه يقصد الفريقَين المتخاصمَين. الاوّل سمّاه "المرتابون من تطورات المنطقة" وقال إن لديهم انطباعاً "وكأن شيئاً لم يتغير، لا عندنا ولا حولنا ولا في فلسطين ولا في سوريا ولا في العالم" واصفاً ذلك بأنه "مكابرة أو حالة إنكار ليقنع هذا البعض نفسه، بأنه يمكنه الاستمرار بما كان قائماً من تشوّهات في مفهوم الدولة وسيادتها على أرضها، منذ 40 عاماً". ووجد "إن هذا السلوك مجاف للواقع وللإرادة اللبنانية أولاً، قبل أم يكون مناقضاً للظروف الإقليمية والدولية". أما الفريق الآخر فلديه انطباع مناقض "بأن الزلزال الذي حصل، قضى على جماعة كاملة في لبنان، وكأنّ طائفة لبنانية برمّتها قد زالت أو اختفت، أو كأنها لم تعد موجودة في حسابات الوطن والميثاق والدولة". ووجد عون في ذلك "مكابرة أخرى، وحالة إنكار مقابلة، لا تقل عن الأولى خطأً وخطراً". وتوجه الى "من يرفض الاعتراف بما حصل" قائلا، إن "الزمن تغير، والظروف تبدلت، ولبنان تعب من اللا دولة، واللبنانيين كفروا بمشاريع الدويلات، والعالم كاد يتعب منا، ولم نعد قادرين على الحياة في ظل انعدام الدولة". ثم خاطب الفريق الآخر بالقول: "ليس صحيحاً ولا مقبولاً أن نتصرف وكأن جماعة لبنانية زالت أو اختفت أو هُزمت. فهؤلاء لبنانيون، هم أهلنا أبناء الأرض، هم باقون معنا ونحن باقون معهم، لا نقبل لهم سوى ذلك، ولا هم يقبلون. هؤلاء ضحّوا وبذلوا وأعطوا دماً وشهادات. والآن علينا جميعاً أن نعود معهم ومع كل اللبنانيين، إلى حضن الوطن".
تجميع ذرائع
على أن النظرة المتجردة إلى الكلام الأميركي والإسرائيلي المتلاحق عن أن "حزب الله" يعاود بناء قدراته العسكرية استعداداً لمواجهات جديدة مع إسرائيل، إنما تكشف وجود مبالغات كبيرة يعرفها القاصي والداني، وقد نفاها كثيرون وعلى رأسهم رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي وصفها بأنها كاذبة. لكن الغاية من تكرار هذه المبالغات هي تجميع أكبر مقدار من الذرائع لإقناع العالم بها تمهيداً لتجريد حرب جديدة على "حزب الله" للقضاء عليه عسكرياً، وهو المشروع الذي تعمل عليه واشنطن وتل أبيب منذ زمن بعيد.
آخر المبادرات
يقول البعض إن الوضع بين لبنان وإسرائيل يتجه الى مرحلة حرجة، قد يفاقمها إعلان قوات "اليونيفيل" أخيراً أنها ستبدأ بسحب وحدات منها قريباً وتباعاً بسبب النقص في التمويل.
بعض آخر يعتبر أن نزع سلاح "حزب الله" هو التحدي الأكبر داخلياً لأن "الحزب" يرفض ذلك ولكنه في الوقت نفسه يبدي الاستعداد للتفاوض حول نزع سلاحه مقابل الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة. ولكن الفكرة الرئيسية لمبادرة عون تدعو إلى حل عملي ومستدام، من خلال استكمال انتشار الجيش اللبناني على الحدود الجنوبية واستكمال تنفيذ قرار حصر السلاح بيد الدولة والدخول في مفاوضات مع إسرائيل برعاية دولية للتوصل إلى اتفاق يوقف الحرب نهائياً. وتربط المبادرة الخطوات اللاحقة بالموقف العربي الجامع، في إشارة إلى عدم سير لبنان بمفرده في أي عملية سلام أو تطبيع.
وفي أي حال فإن مبادرة عون تشكل فرصة تاريخية لكنها محفوفة بالمخاطر باعتبار أن نجاحها مرهون بمدى قدرة لبنان على ترجمة الإرادة السياسية فعلاً ملموساً على الأرض، واستعداد المجتمع الدولي للضغط على إسرائيل لوقف اعتداءاتها والدخول في مفاوضات جدية مع لبنان. ولكن إسرائيل ترفض حتى الآن الدخول في مفاوضات أو تسوية مع لبنان، ما يعكس استمرار حالة الحرب على رغم اتفاق وقف إطلاق النار.
أما بالنسبة إلى الموقف الاميركي، وفي ضوء إبداء ترامب استعداده لاستقبال الرئيس اللبناني في البيت الأبيض من دون أن يدعوه رسمياً بعد فإن واشنطن تريد حلاً دائماً بين لبنان وإسرائيل، وترى في تعزيز سيادة الدولة اللبنانية الطريق إلى ذلك، لكنها تشترط نزع نزع سلاح "حزب الله" كليا وتعتبره الركيزة الأساسية والمطلب غير القابل للمساومة في أي حل ترعاه. ولتحقيق هذا الهدف تستخدم واشنطن وسائل متعددة تجمع بين الديبلوماسية من خلال الحديث عن احتمال دعوة الرئيس اللبناني لزيارتها، وبين الضغط من خلال وقف المساعدات العسكرية وتوجيه الانتقادات العلنية للسلطة اللبنانية والجيش.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
