نحتفل اليوم السبت 22 تشرين الثاني 2025 بعيد الاستقلال الثاني والثمانين، ولكن من دون أي مظهر احتفالي، خصوصاً الاستعراض العسكري المألوف في وسط المدينة، في حضور أركان الدولة.

فهذا الاستقلال الذي نلناه عام 1943، ولم نحافظ عليه، واستعدناه عام 2005، بانسحاب آخر جندي غريب من أرضنا، يبدو أننا سنخوض معركة ثالثة لاسترجاعه، في ضوء ما آلت إليه حالنا: احتلال إسرائيلي متجدِّد، وصاية دولية – إقليمية... يا ما أحلى الانتداب الفرنسي الذي كنَّا نكتفي معه بمفوَّض سامٍ واحد، يتبدل كل مدَّة، فإذا بنا اليوم في حضرة مفوضين ساميّن كثر.

ليست خطيئتنا، فحسب، كلبنانيين، أننا ارتضينا لأنفسنا، منذ العام 1926، نظام حكم هجيناً، مدنيّاً علمانيّاً بدستوره (لولا المادة الـ95 منه التي تنص على توزيع الوظائف طائفيّاً... موقتاً)، وطائفيّاً بأعرافه، وما زلنا إلى اليوم نعاني تبعاته، لا بل ستتضاعف معاناتنا ما دامت الكلمة الفصل للمذهبية، حتى من ضمن المذهب الواحد.

ولا خطيئتنا، فحسب، أننا عندما عدَّلنا الدستور، لننتقل – قال – إلى الجمهورية الثانية، ارتضينا مجبرين، مخيَّرين بين استمرار لغة المدفع ووقف حمام الدم، "اتفاقاً" يحمل بذور موته في جيناته، لأنه، أولاً، عزز الطائفية، بدفع الخطاب السياسي إلى مذهبية مقيتة؛ ولأن فيه، ثانياً، من الغوامض والإشكالات والتفسيرات المتناقضة ما لا يجعله صالحاً للحكم؛ ولأن الهدف منه، ثالثاً، لم يكن إصلاحاً أو رؤية مستقبلية، بمقدار ما كان جعلَ لبنان قالب حلوى لقوى دولية وإقليمية تتقاسمه وتتلتذذ بطعمه، ولم ينل منه السياسيون المحليون والمحظيون، سوى الفتات، وهم راضون قانعون يتسابقون على منصب هنا وصفقة هناك وارتهان وتزلمُّ هنالك، وأورث الشعب مزرعة وفساداً وهجرة وفقراً وتعطلاً من العمل وديناً بمليارات الدولارات هيهات أن نفيه، فضلاً عن ضياع أموال المودعين، جرَّاء ما سمي "ثورة 17 تشرين".

إنما خطيئتنا العظيمة أيضاً، هي أن بعدما تحرر لبنان من الجيوش الغريبة، واستعاد سيادته وحريته واستقلاله، لم يُكِبَّ أي من أفرقائه السياسيين، أو أحزابه أو جماعاته، إلَّا في ندر، على إجراء مراجعة نقدية، كل لخطابه ومفاهيمه إبان الحرب (1975-1990)، أو خلال ما سُمي مرحلة السلم الأهلي، التي كانت بالفعل استمراراً مبطَّناً للحرب (1990 – 2005)، بل تمسكوا بما عدُّوه مُنْزَلاً – أستغفر الله – وتلطَّوا به وتمترسوا خلفه، فلم يخرجوا من شرانق أسروا أنفسهم فيها، فكادوا يموتون فيها اختناقاً.

ما هو لبنان؟ أوطن أم فندق أم ساح لتصفية الحسابات أم محطة ترانزيت أم ملجأ؟

أهو وطن مستقل ممنوع من الصرف في أسواق التقسيم والإلحاق والتوطين، أم جزء من كلٍّ؟ أم لزوم ما لا يلزم؟

ما هويته؟ ألبناني هو وحسب؟ أم عربي؟ وأي عروبة، وكان أحدث وجوهها تجلى بـ"الداعشية"، ما شاء الله؟

من هو عدوه؟ من هو صديقه؟ أين مصلحته في هذا الحلف أو ذاك، أو في هذه العداوة أو تلك؟

ما دوره ووظيفته؟ أدولة قائمة في ذاتها، أم قبائل متناحرة كل منها ينتمي إلى خيار دولي أو إقليمي، ديني أو اجتماعي؟ أَوَمجموعة طوائف تعيش في مستوعب واحد غصباً عنها، وتنتظر من يتاجر بها، أم نموذج سبق عصره في حياة واحدة بين مكونات مختلفة، بما يجعل منه أمة لا مجرد وطن؟ أوَيسلك التحييد، أم يحشر أنفه في ما لا يعنيه؟

ما مستقبله؟ هل هو الاستمرار في تناتش السلطة والمناصب واقتسامها بين عائلات لم تغب أسماؤها عن كل المجالس النيابية، إلَّا نادراً، وأحزاب منها ما هو عريق ومنها ما هو حديث؟ أم وضع قانون انتخابات نيابية يلبي تطلعات أهل لبنان وينصفهم ويعدل بينهم؟ وهل هو الحفاظ على سياسة الاستجداء و"من مال الله يا محسنين" أم الانطلاق إلى المبادرة واستثمار ما يكتنزه من ثروات فكرية وطبيعية وسياحية، بما يحصن الاستقلال والقرار الحر، ويخدم الشعب ويوفر له الأمن والأمان والطمأنينة والازدهار؟

أسئلة أساسية، وثمة غيرها الكثير، ولكن من أجاب عنها قبلاً ويجيب عنها اليوم؟ ومن يستطيع أن يوحد الإجابة عنها، وهو يعيد النظر في أدبياته السياسية والفكرية، كي نقبل على الغد، ونحن نقرأ في كتاب واحد، لا يحتمل تأويلات وتفاسير متعددة؟

لم تفت الفرصة بعد. العالم يتغير، والتسوية مقبلة على المنطقة، فهل نستمر نبحث في جنس الملائكة فـ"نروح فرق عملة" في لعبة تغيير الدول؟ أم ينصرف كل حزب وجماعة وفريق إلى مراجعة نقدية على مستواه أولاً، يستخلص منها العبر والنتائج ويحدد الرؤى والتطلعات، ليلتقي الجميع، من ثم، في حوار صريح ينتهي إلى عقد لبناني – لبناني خالص، يؤسس لغد واعد في دولة يليق بها اسمها؟

فلا نكوننَّ كما لاحظ نيتشه أن "الاعتقادات الراسخة عدو الحقيقة، وهي أكثر خطراً من الأكاذيب"... إلَّا إذا ما زلنا نعتقد أن الكذب ملح الرجال... ونعم الرجال.

مر على العهد الجديد عشرة أشهر. لم يعمل أحد فيه بما سبق. كلام كثير. وعود أكثر. أما الفعل فيكاد يوازي الصفر. حرب انتهت باتفاق لوقف النار، لكنها لم تنتهِ. شروط مفروضة على لبنان، تقارب الإذلال. مصير يراوح بين الحرب التدميرية، والحرب التدميرية، مرفقاً بالتهويل والتخويف والعصا من دون الجزرة.

المقصد من كل ما سبق وقف التدخل الإيراني في لبنان، خصوصاً بعد الضربات القاتلة التي وجهت إلى طهران، وحليفتها دمشق، وحزب الله. لكن المفوضين الساميّن الأوصياء الجدد ليس بينهم إيراني واحد. قل إنهم موفدون رئاسيون أميركيون أو شيوخ أو نواب أو محللون سياسيون من بلاد العم سام، يعاونهم، بدرجة أقل، أشخاص من جنسيات أخرى ولا سيما منها عربية.

والسلطة في لبنان، حيال ما سبق، لا حول لها ولا قوة، تستجدي التفاوض مع إسرائيل، وإسرائيل لا ترد... حتَّى إن الجيش اللبناني المعوَّل عليه خشبة خلاص، لأنه حامي الوحدة الوطنية، ووائد الفتن، "يكافَأ" بمعاقبة قائده: ممنوعة عنك الولايات المتحدة الأميركية، لأنك "تتباطأ" في تنفيذ حصرية السلاح، ولأنك لم تجارِ الإملاءات الخارجية، ولأن ثمة من ينمّ عليك في الداخل والخارج.

اليوم عيد استقلال لبنان؟ فبأيِّ حال تعودُ يا عيد؟ وا استقلالاه.