لم يكن مستغرباً أن تُثير تصريحات الموفد الأميركي إلى سوريا ولبنان توم برّاك، عشية انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، صدمة سياسية في بيروت وسائر العواصم المعنية بملفّ الصراع العربي ـ الإسرائيلي. فقد وصف الرجل "السلام في الشرق الأوسط" بأنه "مجرّد وهم"، وقلّل من جدوى اعتراف بعض الدول الفاعلة وذات التأثير البالغ على مسرح السياسة العالمية بالدولة الفلسطينية، قبل أن يذهب أبعد من ذلك باتهام الحكومة اللبنانية بالتردّد في اتخاذ خطوات عملية لنزع سلاح "حزب الله"، مؤكداً أنّ واشنطن لن تقوم مقام اللبنانيين في هذا الشأن.

وقال برّاك في مقابلة تلفزيونية إنّ هناك "27 وقفاً لإطلاق النار لم ينجح أيّ منها"، مضيفاً أنّ "المسؤولية تقع على عاتق الحكومة اللبنانية"، رافضاً أي فكرة عن تدخّل عسكري أميركي يعيد سيناريو قوات المارينز إلى لبنان على غرار ما حصل خلال حقبة حكم الرئيس دوايت أيزنهاور عندما نزلت قوات مشاة البحرية الأميركية في 17 تموز 1958 على شواطىء بيروت، أثناء احتدام الصراع بين أنصار "مصر الناصرية" وبين أنصار "حلف بغداد" على الأراضي اللبنانية في عهد الرئيس كميل نمر شمعون، تطبيقاً لما عُرف في حينه بـ "مبدأ أيزنهاور".

ردّ بيروت الرسمي

جاء الردّ سريعاً من رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام الذي اعتبر كلام برّاك "تشكيكاً بجدّية الحكومة ودور الجيش". وأكد التزام حكومته بحصر السلاح بيد الدولة، داعياً المجتمع الدولي إلى تكثيف دعمه للجيش اللبناني والضغط على إسرائيل لوقف اعتداءاتها، ومجدّداً التمسك بمبادرة السلام العربية لعام 2002 كإطار واقعي لتحقيق تسوية عادلة وشاملة. هذه المبادرة تقوم على مبدأي الأرض مقابل السلام والحل بالدولتين.

ولعل هذا ما أراد رئيس الحكومة اللبنانية التأكيد عليه مطلع الأسبوع الجاري، بُعيد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة على إعلان يحدّد "خطوات ملموسة ومحدّدة زمنياً ولا رجعة فيها" نحو حل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين، وذلك قُبيل انطلاق أعمال الدورة الـ 80 للمنظمة الدولية بحضور لافت لقادة العالم.

ذاكرة شارل مالك ورسالة التعددية

وقد أطلّ الرئيس جوزاف عون في أول كلمة يلقيها باسم للبنان من منبر الجمعية العامة. استهل خطابه باستذكار مساهمة لبنان التاريخية في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قبل 77 عاماً عبر شارل مالك، "الفيلسوف اللبناني الذي ساهم مع كبار رجالات الفكر الحقوقي الإنساني يومها، في إعطاء البشرية ذلك الإعلان الخالد، والذي أُعطي شرف رئاسة هذه الجمعية الموقرة بين عامي 1958 و 1959، ممثلاً لبلدي لبنان".

هكذا أكّد الرئيس في كلمته على حقيقةٍ مؤدّاها أنّ لبنان ما زال يحمل رسالة الحرية والتعددية والعيش المشترك رغم جراحه.

هذا الاستحضار للذاكرة لم يكن محض تحية رمزية، بل رسالة واضحة بأنّ لبنان يريد أن يظلّ "واجب الوجود" في عالم مأزوم بالانقسامات، وأن يقدم نفسه نموذجاً وحيداً للتوازن بين المسيحية والإسلام ضمن معادلة دستورية متساوية. واستعاد الرئيس عون قرار الجمعية العامة عام 2019 بإنشاء "أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار" على أرض لبنان، واعداً بإحيائها بعدما غيّبتها الأزمات.

تناقض بين الخطاب والواقع

لكن في الموازاة، ثمة تناقض في الرؤية اللبنانية يبدو أنه، ولو إلى حينٍ، سيبقى صارخاً: لبنان يقدّم نفسه من منبر الأمم المتحدة كمنارة للحوار والتعددية، فيما يقوّض واقعه سلاحٌ غير شرعي يفرض وصاية على القرار الوطني. وتصريحات برّاك في هذا السياق أعادت النقاش إلى أساس المشكلة: كيف يمكن للبنان أن ينهض برسالته التاريخية وهو رهينة قوى الأمر الواقع؟

فـ "حزب الله"، من جهته، يحاول الجمع بين خطاب داخلي يدعو إلى "فتح صفحة جديدة" مع السعودية – وفقاً لما جاء مؤخراً على لسان أمينه العام الشيخ نعيم قاسم – وبين ارتهانه لمعادلات إقليمية، ولا سيما مسار العلاقات بين طهران والرياض حيث أنّ تجربة العقود الماضية برهنت أنّ هذه الدعوات غالباً ما تكون محاولات لكسب الوقت لا مراجعات جدّية.

إسرائيل بعد "طوفان الأقصى": معادلات أشد قسوة

منذ هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول 2023، لم تعد إسرائيل كما كانت. صارت تعتبر أمنها القومي خطاً أحمر ستدافع عنه بكل الوسائل، ما يجعل أي رهان لبناني على معادلة "المقاومة والردع" أكثر هشاشة. وبهذا، يجد لبنان نفسه في قلب مواجهة إقليمية لا طاقة له على تحمّل تبعاتها.

فالخطابات الرسمية في بيروت تواصل الحديث عن لبنان كـ"رسالة"، وهو كان كذلك فعلاً خلال عقدين متتاليين من تاريخه الحديث (1949 – 1969). لكن العالم يتعامل اليوم مع وقائع الأرض لا المثاليات. والحقيقة أنّ أربعة عقود من السلاح الفلسطيني والسوري والإيراني والجهادي، وصولاً إلى هيمنة سلاح "حزب الله"، عطّلت قدرة لبنان على استعادة دوره الحضاري.

معادلة بسيطة ومعقّدة

هكذا يتضح أنّ استعادة لبنان لدوره مرهونة بمعادلة واحدة: لا أكاديمية للتلاقي ولا رسالة للتعددية من دون دولة قوية تحتكر قرار السلم والحرب. وما لم يُحسم هذا الاستحقاق، سيبقى لبنان معلّقاً بين صورة وردية يقدّمها للعالم وواقع داخلي مأزوم.

أكتب هذه الخاتمة من موقع ألمٍ وحنين. أردتُ – كما تريد غالبية اللبنانيين – أن يسمع العالم قصّة بلدٍ علّم أجياله أنّ الاختلاف ليس عدواناً، وأنّ التعددية جمالٌ سياسي واجتماعي في آن. لكنني أعود إلى بيتي فأجد شوارع مُنهكة، وأسراً جريحة، وجيلاً فقد اليقين.

أؤمن بلبنان. لكنّ الإيمان وحده لا يكفي. وإلى أن نختار بجرأة دولة واحدة تحتكر قرارها الوطني، سيبقى منبر الأمم لنا تذكيراً بما نطمح إليه، لا بديلاً عمّا يجب أن ننجزه هنا، على أرضنا.