في ذروة الحرب الباردة، حين كانت برلين مدينةً مقسّمة بجدارٍ يفصل عالمين متناحرين، لم يكن الصراع بين الشرق والغرب يدور فقط في أروقة السياسة أو خلف أبواب المكاتب السرّية، بل امتدّ إلى أماكن لم تخطر ببال أحد... إلى القلوب ذاتها. هناك، في الظلال الناعمة للعلاقات الإنسانية، أطلق جهاز أمن الدولة والشرطة السرية في ألمانيا الشرقية، المعروف باسم "شتازي"، واحداً من أكثر برامجه جرأةً ودهاءً في التاريخ، عُرف باسم "برنامج روميو".

كان الهدف بسيطاً في مظهره، لكنه شديد التعقيد في تنفيذه: تجنيد الجواسيس بواسطة الحبّ والإغواء والإقناع والخداع. أعدّت شتازي مجموعة من الرجال الوسيمين والمثقفين والمدرَّبين بعناية فائقة على علم النفس وفنون الإقناع والاغواء والاستمالة والتأثير. لم يكن هؤلاء العملاء رجال ظلّ، بل ممثلون بارعون في أدوار الغرام والعشق. كان يُرسَل كل "روميو" إلى ألمانيا الغربية ليبحث عن نساء وحيدات يعملن في مؤسسات حكومية حسّاسة، خصوصاً في وزارتَي الخارجية والدفاع وأجهزة استخبارات دول حلف الناتو.

غالباً ما كانت تلك النساء غير متزوجات أو مطلّقات، يعشن وحدَهن في مجتمعاتٍ لا تمنح المرأة مساحة واسعة من الدعم العاطفي. وحين يظهر "روميو"، كان يحمل كل ما يفتقدنه من اهتمام وحنان واستقرار عاطفي يوهم بالصدق. وببطءٍ محسوب، كانت تُنسَج خيوط العلاقة حتى تتحوّل إلى حبّ حقيقي في نظر الضحيّة. وعندما يحين الوقت المناسب، يطلب العاشق خدمةً صغيرة، وهي عبارة عن نسخة من وثيقة، أو معلومة عن اجتماعٍ ما، أو حتى ورقة من ملفّ رسمي. لكن تلك الخدمات لم تكن يوماً صغيرة، بل مفاتيح لبوابات الأسرار الغربية.

وراء هذا البرنامج الجريء، وقف رجلٌ واحد بملامحٍ هادئة وذكاءٍ خارق، هو "ماركوس وولف" رئيس الاستخبارات الخارجية في "شتازي"، والعقل المدبّر الذي أعاد تعريف مفهوم التجسّس في القرن العشرين. كان الغرب يلقّبه بـ "الرجل بلا وجه" لأنه ظلَّ لسنوات لغزاً لا صورة له في ملفات المخابرات الغربيّة. رأى "وولف" في المشاعر الإنسانية سلاحاً يفوق كل التقنيات، وقال يوماً عبارته الشهيرة: "ليست كل الأسرار تُنتزع بالقوة أو بالتكنولوجيا، فبعضها يُنتزع بكلمة حبّ صادقة".

من مكتبه في برلين الشرقية، رسم "وولف" خرائط عملياته بعقل المايسترو، يختار "الروميوهات" كما يختار المخرج أبطال مسرحيته، ويدرّبهم على الإصغاء قبل الكلام، وعلى الابتسامة في اللحظة المناسبة، وعلى قراءة الوِحدة في عيون ضحاياهم. كانت الحرب بالنسبة إليه ليست فقط بين أنظمة وأيديولوجيات، بل بين العقول والقلوب.

نجح برنامج "روميو" على نحوٍ مذهل، فقد تمكنت "شتازي" من خلاله من الحصول على مئات الوثائق والمعلومات المصنّفة "سرّي" أو "سرّي للغاية" من داخل مؤسسات ألمانية غربيّة ومن سفارات دول حلف الناتو، من دون إطلاق رصاصة واحدة أو اختراق أي جهاز إلكتروني. لقد كانت الحرب العاطفية أكثر فاعلية من الحرب التقنية، إذ استغلّت "شتازي" الجانب الأكثر هشاشة في الإنسان، وهي حاجته إلى الحبّ والاهتمام، وشاركت معلوماتها بصورة وثيقة مع نظيرتها السوفييتية "KGB"، ما عزّز قدرة موسكو على استغلال تلك المعلومات على نطاق أوسع.

لكن مع انهيار جدار برلين عام 1989، سقطت الأقنعة وخرجت القصص إلى العلن. اكتشفت نساء كثيرات أن الرجال الذين أحببنهم بصدق لسنوات لم يكونوا سوى عملاء مدرّبين، وأن رسائل الحب والوعود بالزواج كانت مجرّد أدوات في لعبة استخباراتية باردة. بعضهن انهار تماماً، وبعضهن فضّل الصمت خوفاً من الفضيحة، فيما عبّرَت أُخريات عن خيبةٍ عميقةٍ ليس فقط لأنهن خُدِعن، بل لأنهن شاركن دون قصدٍ في تسريب أسرار بلدانهن إلى العدوّ.

لم يكن "برنامج روميو" مجرّد فصل من رواية تجسّس كلاسيكية، بل مرآة تكشف الجانب الأكثر تعقيداً في النفس البشرية، وكيف يمكن للعاطفة أن تتحوّل إلى سلاحٍ استراتيجي. فبينما كان الغرب يعتمد على الأقمار الاصطناعية والتكنولوجيا، آمنت ألمانيا الشرقية بأن القلب البشري هو أعقد جهاز استخباراتي على الإطلاق.

واليوم، بعد مرور عقود على سقوط الجدار، لا يزال "روميو" يُدرَّس في الغرب كأحد أذكى برامج التجسّس العاطفي في التاريخ، ودليلاً على أن الحبّ، حين يقع في يد المخابرات، يمكن أن يُصبح أخطر من أي عملية تجسّس كلاسيكيّة.