لم يكن الشاعر نزار قبَّاني، رحمه الله، يدرك حين كتب بيتاً في قصيدة "ماذا أقول له" الَّتي أدتها نجاة الصَّغيرة، بلحن محمد عبدالوهاب، أنه كان يستشرف أو يتنبَّأ، وأنه في 10 نيسان/أبريل 1965، عرف ما سيأتي به المستشرق اليهودي الأميركي برنار لويس لتتبناه لاحقاً وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مطلع العام 2005، عنيت به نظرية الفوضى الخلاقة.

كتب نزار في قصيدته:

وكيفَ أهرُبُ منه إنَّه قدري

هل يملِكُ النَّهرُ تَغييراً لمجْراهُ؟

أما نظرية "الفوضى الخلَّاقة" في الشرق الأوسط والعالم العربي، فتُلخَّص بالعمل على إثارة اضطرابات داخليَّة وافتعال أزمات في مفاصل الدولة والمجتمع، وتكليف جهة معيّنة لإدارة الأزمات إلى حين إيجاد بيئة مهيأة لحدوث التغيير في البنية السياسية للدولة وفق ما تقتضيه مصالح الدول الكبرى والنظام العالمي الجديد.

سنوات ونحن نحيا تلك الفوضى، غير الخلاقة، ونعاني أزمات على مختلف المستويات، وآخرها مسألة حصرية السلاح في يد الدولة اللبنانية، التي صنّفها السفير الأميركي من أصل لبناني توم برّاك "دولة فاشلة"، من دون أن يسأل نفسه من أتى بأركانها إلى السلطة، من نجوم الصف الأول، إلى ممثّلي الأدوار الثانوية، إلى الكومبارس؟ أليس من الأجدر والأجدى به أن يلوم حكومته على خياراتها، وإن تلقت وعوداً بقدرة من وعدها، على حل مسألة السلاح غير الشرعي.

ها قد مرَّت عشرة أشهر على الحكم الجديد في لبنان، بعد ما حل بالجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية وبيروت، من عمليات ممنهجة للقتل والتدمير والتهجير، ومن ثم بعد الضغط السياسي، من أجل تسليم "حزب الله" والفصائل الفلسطينية أسلحتها إلى السلطات اللبنانية، ولكن حتى الآن، تراوح إجراءات التنفيذ مكانها، فيما الخطوات المتخذة حتى الآن إما فولكلورية وإما ناقصة، يدرجها الرعاة الدوليون في خانة التباطؤ والمماطلة.

عدم حسم السلطة اللبنانية خيارها في شأن حصرية السلاح، يرتّب على لبنان مسؤوليات، أو إجراءات لا قِبَلَ له على تحمُّلها: فإما يرضخ للشروط التي طلب أحدها من رئيس البلاد أن يتَّصل بنتانياهو ويتفِّق وإياه على التفاوض المباشر، وإما معاودة إسرائيل الحرب على أرضه، بحجة القصور الرسمي عن تطبيق القرار الرقم 1701، وبضوء أخضر من الرعاة الدوليين.

رئيس البلاد أبدى استعداده للتفاوض من أجل انسحاب إسرائيل، وأبلغ قراره إلى المعنيين والوسطاء الدوليين والعرب. إسرائيل تلقفت الاستعداد الرئاسي، المنسَّق مع رئيسي المجلس النيابي والحكومة، من دون أن ترد، لا سلباً ولا إيجاباً.

ولنفترض أن إسرائيل وافقت على التفاوض المباشر مع لبنان، هل يملك لبنان ورقة موحدة، يقدمها على طاولة المفاوضات، فيما ثمة تباينات سياسية بين أركان السلطة، وتكتلات داخل مجلس الوزراء، لا ينقصها لتظهر أكثر سوى رفع المتاريس بعضها في مواجهة بعض، خصوصاً أن ثمة وزراء هم جزء من السلطة يتصرفون كمعارضة داخل الحكومة، على أساس أن المعارضة "ربِّيحة" أكثر، والانتخابات في الغد القريب؟

ولنفترض أيضاً أن مسار المفاوضات سار على الدرب القويم، ألن يعتبر أركان السلطة عندنا ممن أريد له أن يكون مثالاً لهم، عنيت به الجولاني أمس، الشرع اليوم، إذ أعلن أن بلاده كانت على وشك توقيع اتفاق مع إسرائيل، إلا أن إسرائيل أخلت بالوعود.

فهل تريد إسرائيل التفاوض، أم أنها تدفع الأمور إلى مواجهة جديدة مع لبنان، تنتج عنها فوضى، خلاقة في نظر برنار لويس وكوندوليزا رايس، وغير خلاقة في قاموس الديمقراطية والحرية والسيادة والعدالة واستقلال الدول وحقها في إدارة شؤونها، وفق طبيعة أنظمتها وشعوبها.

أليس ما سينتج عن الفوضى الخلاقة المزعومة، إذا ما طبقت نظريتها في لبنان المتنوع، الدقيق التوازنات، يشبه نهراً بعد إعصار، أو عواصف عاتية، يجرف في جريانه خارج الضفاف، الأخضر واليابس، فيحطم ويدمر ويقتل ويعم اليابسة... إلى أن يستوي في مجرى ما، فيبني من بقي على قيد الحياة، أو من يراقب الذين بقوا على قيد الحياة وسط المشهد الأبوكاليبسي هذا، على الشيء مقتضياته.

وهنا يحضر بيت نزار. النتيجة قدر محتوم. لا النهر قادر على تغيير مجراه، ولا السلطة من ركن أركانها، حتى آخر كومبارس فيها، تستطيع شيئاً سوى قبول الشروط التي يضعها مسبّب الفوضى الخلاقة، خصوصاً أنها سلطة فقدت أي عنصر قوة، وتنازلت عن أي قدرة على المناورة في التفاوض، فانكشفت وتعرَّت وصار لزاماً عليها أن ترضخ. وهذا "منطق" يقول به كثر من ممتهني الظهور على الشاشات للتبشير بعصر الاستسلام المقبل.

ولكن مهلاً... هل يُسمح لنا قبلَ أن يصبح عصر الاستسلام حقيقة، أن نحتفل باليوم الوطني للكشك، على ما أراد مجلس الوزراء من بنده المدرج على جدول أعماله، إحياء للتراث والثقافة الشعبية واحتفاء بهما، أن يودع اللبنانيين بـ"كم منقوشة كشك"... قبل أن يصبح عدد اللبنانيين في العالم "مثل الكشك".

وها هو نزار قباني الذي عشق بيروت وسكنها، وعاش أدق تفاصيلها، وشارك أهلها عاداتهم وتقاليدهم، يعدل من غربته الأبدية قصيدته تلك، ويضيف إليها "العز اليوم للكشك، والزعتر شنق حالو".