منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران قبل أكثر من 46 عاماً، طبَع الالتباس المجدول على تساؤلات وشكوك العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية من جهة وإسرائيل من جهة ثانية، صعوداً أو هبوطاً، طرداً أو عكساً، تصادماً أو مهادنة.
ولا يحتاج إثبات هذه العلاقات المتآلفة أو المتلاطمة بين أصدقاء ألدّاء، العودة إلى التاريخ الألفي السحيق وواقعة الإسناد الفارسي لليهود في قضية "سبي بابل"، ولا إلى التاريخ المعاصر والتذكير بدور واشنطن في تهيئة ظروف انقلاب آية الله الخميني على الحكم البهلوي، وبالإسناد العسكري الأميركي والإسرائيلي الشهير لإيران (فضيحة "الكونترا") في حربها ضد العراق، بل مراقبة ورصد ما يحصل راهناً بين هذه الأطراف الثلاثة المتصادمة والمتلاقية في آن.
هذا الرصد يؤدّي إلى تأكيد علاقة مثيرة بين العواصم الثلاث يمكن اختصارها بمستويَين: مستوى إقليمي دولي حول القضية الفلسطينية، ومستوى محلّي موضعي حول الأزمة اللبنانية.
بالنسبة إلى المسألة الفلسطينية، هناك تقاطع مثير ومريب بين الأطراف الثلاثة حول مشروع "حلّ الدولتين"، ولو بدوافع مختلفة. فإيران ترفض هذا الحل المتصاعد دولياً بحجة عدم اضطرارها للاعتراف بدولة إسرائيل، ودعوتها إلى قيام دولة واحدة بما يشبه المحاكاة الكاريكاتورية لطرح الرئيس الليبي الراحل معمّر القذّافي عن "إسراطين"، وهي عبارة تختصر كلمتَي إسرائيل وفلسطين!
في المقابل، ترفض إسرائيل، ومعها واشنطن (والأرجح حتى إشعارٍ آخر)، مبدأ وجود دولة فلسطينية مستقلّة، ولا يتردد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في خوض حرب أبدية لقطع الطريق عليها، وبدأ يستعدي معظم العالم بسببها.
في الحقيقة، إن الرفضَين الإيراني والإسرائيلي، يلتقيان على نتيجة واحدة أو هدف واحد، ولو من منطلقَين مختلفَين، ويتحالفان واقعياً تحت الرعاية الأميركية لمنع قيام دولة فلسطينية. ففي الحساب الإيراني أن نفوذ طهران ينتهي بانتهاء ابتزازها العالمَين العربي والإسلامي في الإبقاء على القضية الفلسطينية بلا حل.
أمّا على المستوى اللبناني، فإن الحل الذي أقرته الحكومة اللبنانية بـ "حصر السلاح" وكلّفت الجيش تنفيذه، بات عالقاً بين الرفض الإيراني عبر "حزب الله" والإصرار الإسرائيلي على النزع الكلّي لهذا السلاح تحت طائلة خوض حرب جديدة لتدمير ما تبقّى منه. ولا يخفى التقاطع الخطير بين هذَين الرفض والإصرار اللذَين يؤدّيان إلى استمرار الصدام واستنقاع الأزمة اللبنانية إلى أمد مجهول.
وبات واضحاً أن تشبّث "الحزب" بسلاحه، ودائماً بتحريض إيراني بلغ حد اعتباره "ثروة وطنية" وفقاً لتعبير المرشد علي خامنئي، يشكّل عملياً ذريعة مباشرة لإسرائيل كي تستمر في نهجها العسكري التدميري، ولا يغفل أحد عن أن إيران تدرك تماماً هذه الحقيقة، وأنها تخدم بالمواربة الموقف الإسرائيلي، كما فعلت من خلال رفضها قيام دولتين فلسطينية وإسرائيلية.
لا يُضيع "حزب الله" فرصة واحدة لتقديم ذرائع لـ "العدوّ"، ليس فقط عبر تصريحات متشددة لقياداته عن استعادة قوته وجهوزيته القتالية، بل عبر استفزاز الدولة والمكوّنات اللبنانية في كل مناسبة من مناسباته، وآخرها ما سمّاها "فاعليات" إحياء الذكرى السنوية الأولى لأمينَيه العامَّين الراحلَين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، وما يرافقها من إشكاليات كالاستخدام الدعائي لصخرة الروشة التراثية السياحية، والتي عفّ أنصار شهداء عظام ككمال جنبلاط وبشير الجميل ورفيق الحريري وسواهم عن استخدامها.
في المحصّلة، قد يبدو صعباً جداً على الدائرين في الفلك الإيراني أن يصدّقوا حال التخادم الواقعي بين العدوّتَين تل أبيب وطهران، لكنّها حقيقة مُرّة تكررت عبر مفاصل التاريخَين القديم والحديث، وهناك ضحيّتان الآن لهذا التخادم التكتيكي (أو الاستراتيجي) هما لبنان وفلسطين.
يبقى السؤال: مَن هو القادر على إنقاذ هاتَين الضحيتَين؟
والجواب شديد الوضوح:
وحدها واشنطن تملك المفتاح السحري، عبر إخراج نفسها من معادلة "الأعداء الأصدقاء" في "المثلّث" الرهيب، فتسير في ركاب الأكثرية الدولية الداعية إلى قيام دولة فلسطينية، بل تقودها، وترفع اليد الإيرانية الغليظة عن لبنان بالمفاوضات أو بالضغوط.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]