صعّد متقاعدو الأسلاك الأمنية والعسكرية موقفهم الرافض لاستمرار الإجحاف بحقهم، بالتوازي مع دراسة مجلس الوزراء موازنة 2026. وقد ترافق التصعيد، خلال الأيام الماضية، مع وقفات احتجاجية، تخللها قطع للطرقات في العاصمة بيروت وأمام العديد من المقرات الحكومية. وكادت هذه التحركات أن تتحول لكرة ثلج، تجرف معها سكوت المواطنين عموماً، وموظفي القطاع العام خصوصاً، عن الظلم اللاحق بهم. وأصبحت تهدّد بدكّ ركائز الاستقرار التي تحاول الحكومة إرساءها على "صوص ونقطة" المطالب الدولية، والتوازنات المالية الداخلية. فما كان من الحكومة إلا أن امتصت نقمة العسكريين المتقاعدين، بـ "إسفنجة" مشبّعة بالوعود؛ فهل تحفظ هذه "الإسفنجة" الوعود طويلاً؟ أم أنها ستتسرب منها؟
في الأول من أمس، أعطت الحكومة اللبنانية العسكريين المتقاعدين مجموعة من الوعود التي يطالبون بها، أهمها:
- صرف منحتين إضافيتين خلال هذا الشهر قيمة كل منهما 12 مليون ليرة.
- إعطاء منح تعليمية كاملة أسوة بالعسكريين في الخدمة الفعلية.
- تشكيل لجنة من المتقاعدين ووزارة المالية ووزارتي الدفاع والداخلية، مهمتها دراسة الرواتب والأجور.
- إدخال كافة العطاءات والمنح التي أعطيت سابقاً في صلب الراتب، بحيث لا توزع بشكل منفصل.
- رفع تعويضات الزوجة، والأولاد، وكذلك التعويضات الأخرى مثل الأوسمة وغيرها .
الحل ليس نهائياً
رضي متقاعدو القوات المسلحة بما نالوه، وانسحبوا من الشارع بهدوء، بانتظار تحقيق المطلوب. ولعل أهم ما تم إنجازه هو: "وضع قضية العسكريين المتقاعدين على طاولة مجلس الوزراء للبحث الجدي لإيجاد الحلول"، برأي العميد المتقاعد أندريه أبو معشر.
وعلى الرغم من الجو العام التفاؤلي، المرتكز على إدراك الوضع الاقتصادي في البلد، فإن ما "نلناه لا يعني الحل النهائي لمشاكلنا"، يضيف أبو معشر، "فلا حلول من دون اعتمادات، ولا اعتمادات من دون إيرادات، ولا إيرادات من دون تفعيل الجباية وزيادتها. وهذه السلسلة هي عبارة عن حلقة مفرغة ندور فيها منذ سنوات وسنوات، نتمنى أن تكسر".
تدني الرواتب والتقديمات
في السنوات القليلة الماضية تراجعت تعويضات نحو 75 ألف متقاعد من القوات المسلحة من متوسط 800 دولار، كانت تشكل 1.2 مليون ليرة قبل العام 2019، إلى حدود 250 دولاراً مع احتساب كل المنح والإضافات. وأعطيت المنح التعليمية بشكل استنسابي، فلم تتجاوز 50% بأحسن الأحوال. وتشكل هذه المنح مطلباً أساسياً بالنسبة للعسكريين المتقاعدين، وخصوصاً أنها "حق أساسي قائم بمعزل عن تاريخ الزواج والإنجاب"، يؤكد أبو معشر. و"التمييز في هذا التعويض بين المتعاقدين، ومن هم في الخدمة الفعلية، ينطوي على إجحاف. ولا يجوز معاملة المتقاعد الذي تأخر في الزواج، أو الإنجاب، معاملة مختلفة عمن تزوج وأنجب باكراً". ففي النهاية يخصم من بدلات العسكريين المتقاعدين نسبة 1.5% بدل مساعدات اجتماعية، ومنها المدارس. "فكيف يمكن ألا نستفيد من حقنا كاملا بهذه المنح المدرسية"، يسأل أبو معشر. ويضيف أن من المفروض أن تؤخذ المنحة بقيمتها التي تحددها تعاونية موظفي الدولة بشكل كامل ومن دون أي استنسابية أو حتى تأخير، كما حصل هذا العام، إذ لم تعطَ المساعدة المدرسية عن العام 2024 قبل فترة قصيرة. وهذا التأخير يرهق العسكريين المتقاعدين، و يكبدهم مبالغ مالية تفوق طاقتهم، ولاسيما في ظل تدني الرواتب بشكل كبير.
وفي شأن الإشكالية الأساسية المتعلقة بالرواتب، "نحن نطالب برفعها إلى حدود 50 في المئة مما كانت عليه قبل الانهيار"، يقول أبو معشر، "على أن ترتفع تدريجياً في السنوات الثلاث القادمة لتصبح 100% مما كانت عليه سابقاً، أي لغاية العام 2030 كحد أقصى".
عقدة الايرادات
الضغط الذي مارسه العسكريون، دفع بالحكومة إلى التعهد بتضمين فذلكة الموازنة فقرتين، تتناولان تصحيح الرواتب لكل موظفي القطاع العام، ومن ضمنهم العسكريين المتقاعدين. إلا أن "العبرة في الخواتيم"، يشدد أبو معشر. فإذا كانت الوعود من فضة فالتنفيذ يبقى من ذهب، ولا سيّما في ظل كل الضغوط المالية التي تواجهها الدولة. فقيمة المنح المقررة للعسكريين والمتقاعدين، تبلغ 370 مليون دولار، تشكل نحو 6.6% من مجمل إيرادات الموازنة للعام 2026. وتعوّل الحكومة على زيادة الواردات بشكل عام، من أجل التمكن من فتح اعتمادات إضافية في موازنة 2026 لتمويل الزيادات على الرواتب، ولا سيّما بعد إحباط الضريبة على المحروقات، وتشديد صندوق النقد على عدم عقد أي نفقة من دون تأمين إيراد جديد لها.
الاستقرار أولاً
التعويل على زيادة الإيرادات، أكان من الاستثمارات أو الرسوم الجمركية، يتطلب أمرين أساسيين:
أولاً، ضرب التهريب الجمركي والتهرّب الضريبي بيدٍ من حديد؛ فلا يجوز أن لا تتجاوز الإيرادات الجمركية هذا العام 1.4 مليار دولار، في الوقت الذي يُتوقّع فيه أن نستورد بما يفوق 20 مليار دولار.
وثانياً، تأمين الاستقرار للسماح للاقتصاد بأن يتنفّس الصعداء؛ فمن المُحال تحقيق النمو المنشود بمعدّلات تفوق 5%، في ظل استمرار الحرب، وعدم تنفيذ الإصلاحات الجديّة في القطاعين المصرفي والعام.
جولة جديدة في مواجهة الاجحاف، خاضها العسكريون المتقاعدون نيابة عن كل اللبنانيين، والتعويل يبقى في ملاحقة تنفيذ الوعود وعدم السماح بتمييع الملفات.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]