لطالما استمدّ "حزب الله" دوره الإقليمي من حضوره العسكري والأمني لا من حراكه السياسي أو التأييد الشعبي خصوصاً بعد العام 2011 واندلاع احتجاجات البحرين. فالحكومة البحرينية اتهمته بالتحريض والتدريب فيما هو ندّد بممارستها بوجه المعارضين، ما دفعها إلى سحب سفيرها من لبنان. بالتزامن، حكي عن دور له في تدريب المعارضين في الكويت، فتفاقم الأمر واتهمه مجلس التعاون الخليجي بتهديده الأمن الخليجي. ثم كرّت السبحة بين مواقف "الحزب" التصعيدية ضد دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، والممارسات المنسوبة إليه وبين الإجراءات بحق الأفراد أو الجمعيات التي يشتبه بارتباطها بـ "الحزب".
في الأساس، لم تأخذ السلطات حراك "الحزب" السياسي على محمل الجد بسبب حذرها من ممارساته وقلقها من ارتباطه العضوي بإيران. أما التأييد الشعبي فبلغ أوجه بعد حرب تموز 2006، إذ أصبح التعاطف مع أمينه العام السيد حسن نصر الله بمصاف التأييد للزعيم جمال عبد الناصر. لكن صورته اهتزت بعد استعمال سلاحه في الداخل في أحداث 7 أيار 2008 وانقلب الأمر رأساً على عقب بعد تدخله في سوريا للقتال الى جانب نظام الأسد بوجه المعارضة.
لذا ارتبط الدور الإقليمي للـ "حزب" بقتاله في سوريا وأدواره العسكرية في العراق واليمن، والأمنية في أكثر من دولة، والمترافقة مع اتهامه بضرب الأمن الاجتماعي فيها. ثمة وضعيات في المنطقة ومقوّمات تمتّع بها ساهمت في بلورة هذا الدور، من توسّع نفوذ محور الممانعة، الى قدراته وخبراته القتالية والأمنية وترسانته العسكرية. هذا ما جعل بعض الدول تتواصل معه بفعل الأمر الواقع ليس فقط عربية كقطر بل ايضاً أوروبية كفرنسا التي تعمّدت التمييز بين جناحيه العسكري والسياسي. إلا السعودية لم تلجأ يوماً الى هذا الأسلوب متمسكة بمنطق التعاطي في لبنان مع الدولة والتواصل مع كل من يؤيد منطق الدولة.
لطالما استمدّ "حزب الله" دوره الإقليمي من حضوره العسكري والأمني لا من حراكه السياسي
اليوم فقد "الحزب" عملياً مقومات هذا الدور جراء:
* خسارة الساحة السورية ونفوذه المتعاظم فيها.
* فقدانه القدرة على الحركة التي كان يتمتّع بها نحو الخارج حتى نحو إيران جراء الخصوصية التي كان يتمتع بها في الموانئ البحرية والمطار والمعابر الحدودية. فتحت شعار "المقاومة" كان يتخطى كل الحواجز ويكسر كل المعايير. أما اليوم، فنحن أمام تشدّد من قبل السلطة بضبط بوابات لبنان مع العالم.
* شحّ الأدوات المالية التي كانت تسهّل حركته عالمياً.
* انقطاع طرق الإمدادات العسكرية.
* فقدان عدد كبير من كوادر الرعيل الأول الذين راكموا الخبرات العسكرية والأمنية.
مهما كابر نتنياهو وهوّل بـ "إسرائيل الكبرى" لا مخرج إلا بـ "حل الدولتين" فلسطينياً وبحل الدويلة لبنانياً
"الحزب" الذي خسر دوره إقليمياً، بدأ يأخذ حجمه الطبيعي محلّياً بعدما كان يتمتع بفائض القوة الناجم عن سطوة السلاح أو أقله وهج هذا السلاح والذي تسبب بخلل سياسي عبر "تمييل الدفة" لمصلحته. فلم يعد تناول رموزه أو انتقاد سلاحه أو ارتباطه بإيران من المحرّمات.
رغم إدراك "الحزب" لواقعه الجديد وحقيقة فقدان دوره كلاعب إقليمي و"مايسترو" محلي، فإنه حاول عبر ما أسماه المبادرة التي أطلقها أمينه العام الشيخ نعيم قاسم نحو السعودية البحث عن بدل عن ضائع ولو كلامياً. فهو دعاها إلى فتح صفحة جديدة عبر حوار يعالج الإشكالات، يُجيب عن المخاوف، يؤمِّن المصالح، يُجمِّد الخلافات التي مرت في الماضي، من أجل مواجهة إسرائيل ولجمها.
لذا اصّر على الإيحاء بالندية بينه وبين السعودية وكأنها بمثابة علاقة ليس من دولة الى دولة بل حتى من لاعب إقليمي طليعي هو السعودية إلى لاعب إقليمي هو "الحزب"، مشدّداً على أن "دعوته للحوار والتفاهم من موقع الاقتدار والقوة". إذاً دعوة قاسم هي لانضمام السعودية الى مشروع "الحزب" القتالي المفتوح ضد إسرائيل والقائم على التمسك بالسلاح.
مبادرة قاسم ميتة قبل أن تولد وما هي إلا كسب للوقت واستجابة للرغبة الإيرانية بالايحاء بالمرونة. هي ساقطة من حيث الشكل لأنها بين فريق ودولة؛ ومن حيث المضمون أيضاً لأن السعودية حريصة دوماً على التعاطي من دولة الى دولة مع لبنان ورافضة بشكل حاسم للسلاح غير الشرعي ولن تسير بركب طروحات "الحزب" القائمة على العدائية الأبدية والأزلية والسرمدية لإسرائيل وهي صاحبة مبادرة بيروت 2002 القائمة على حل الدولتين والأرض مقابل السلام، كما أنها ليست بعيدة عن "الاتفاقات الابراهيمية".
المؤتمر الذي نظّم من قبل فرنسا والسعودية في الأمم المتحدة - والذي أنتج إعلان نيويورك الذي حظي بتأييد استثنائي من الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 142 صوتًا والذي ينص على "الالتزام الدولي الثابت بحل الدولتين - والمترافق مع الاعتراف المتزايد لدول العالم بدولة فلسطين هو تعبيد للطريق أمام هذا الحل. فمهما كابر نتنياهو وهوّل بـ "إسرائيل الكبرى" لا مخرج إلا بـ "حل الدولتين" فلسطينياً وبحل الدويلة لبنانياً.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]