النفط سلعة عالمية استراتيجية بامتياز لأنه يدخل في صناعة وتعليب ونقل واستهلاك أكثر من 90% من السلع والخدمات المُحيطة بنا. وتلعب الدول المُنتجة للنفط دوراً إستراتيجياً من باب الاهتمام الدولي باستقرارها وأمنها. ولذلك تجارة النفط هي من الأكبر عالمياً حجماً وقيمةً، وتُلاحَق أسعارُ برميل النفط في الأسواق العالمية بشكلٍ واسع لتداعياتها على الاقتصاد والمعيشة.
يُتداوَل سعرُ برميل الخام الأميركي (خام غرب تكساس) بسعر وسطي يُقارب 63 دولاراً بعدما كان يتخطى 70 دولاراًُ أوائل هذا الشهر. وتُعزى تقلبات الأسعار إلى تفاعل مُعقّد بين عوامل جيوسياسية واقتصادية يخلق ديناميّة مُعقّدة تولّد تقلبات حادّة في بعض الأحيان قدّ تؤدّي إلى ضرب النمو الاقتصادي العالمي.
الجغرافيا السياسية في أسواق النفط
من المُسلّم به أن الجغرافيا السياسية هي المصدر الرئيسي لأي تقلّبات في أسعار النفط على المدى القصير. ومن أهم العوامل الجيوسياسية الحالية التي تؤثّر في سعر برميل النفط:
أولاً – الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت على شكل واسع في العام 2022 وأدّت إلى تقلّبات حادّة في أسواق النفط العالمية خوفاً على العرض الروسي. وبسبب نقص المعروض عمد بعض الدول ، مثل الهند والصين، إلى شراء النفط الروسي بأسعار مخفضة على الرغم من الحظر الغربي والعقوبات الأميركية (أكثر من 12 ألف عقوبة على روسيا!). وهو ما خلق سوقاً موازية تسبّبت بعدم اليقين في سوق الأسعار الرسمية.
ثانياً – قرارات منظّمة "أوبك+" التي تضمّ دول أوبك وروسيا، والتي تحتكر التأثير على أسعار النفط من خلال زيادة أو تقليص المعروض. وأخر هذه القرارات هو قرار زيادة الإنتاج بمقدار 547 ألف برميل يومياً، بدءاً من أيلول القادم وذلك لتعويض خسائر السوق نتيجة الإجراءات الأميركية الأخيرة ضدّ بيع النفط الروسي (رسوم جمركية عالية على الهند)، وللحفاظ على استقرار الأسعار.
ثالثاً – التوتّرات السياسية في الشرق الأوسط التي طالما أثّرت في سوق النفط منذ الحظر الذي فرضه الملك فيصل بن عبد العزيز بعد حرب 1973.
رابعاً – التوتّرات التجارية بين الولايات المتحدة والصين – أكبر اقتصادين في العالم والأكثر استهلاكاً للنفط، والتي تؤثر بشكل كبير على الطلب على النفط. ولعل الرسوم الجمركية الأخيرة التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الصين أضعفت الطلب العالمي وأدّت إلى انخفاض الأسعار.
العوامل الاقتصادية المؤثرة في أسعار النفط
أولاً – يلعب النمو الاقتصادي العالمي دوراً كبيراً في تحديد أسعار النفط من باب زيادة أو تراجع الطلب على النفط. وبالتالي قد يؤدي أي خوف من تباطؤ أو حتى ركود اقتصادي عالمي إلى انخفاض الطلب ومعه سعر برميل النفط والعكس بالعكس.
ثانياً – التضخم والسياسة النقدية: أي تضخّم يعانيه الاقتصاد، يؤدّي حكماً إلى رفع أسعار الفائدة ثمّ خفض الاستثمارات والنمو الاقتصادي، واستطراداً أسعار النفط. وللدولار دور محوري على هذا الصعيد بحكم أن برميل النفط مُقوّم بالدولار. فأي ارتفاع في قيمة الدولار، يُؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط الخام في الدول ذات أسعار صرف العملات المنخفضة، فينخفض الطلب بشكل أكبر.
ثالثاً – التحول إلى الطاقة المتجددة التي لا تزال عاجزة عن تلبية حاجة السوق من الطاقة على الرغم من المساعي العالمية لتطويرها، وبالتالي لا يزال النفط المصدر الأساسي للطاقة خصوصاً في قطاعي النقل والصناعة. ومن المتوقّع أن يؤدّي تطوير هذه الطاقة إلى خفض الطلب على النفط وبالتالي خفض أسعاره.
توقعات أسعار النفط
يُمكن تقسيم التوقعات على ثلاثة مراحل:
أولاً – المدى القصير (3-6 أشهر) ونشهد فيه تقلّبات كثيرة في أسعار برميل النفط مع استمرار التوترات الجيوسياسية وعدم اليقين الاقتصادي. وتُشير مُحاكاتنا الإحصائية إلى أن سعر الخام الأميركي سيراوح بين 60 و75 دولاراً للبرميل الواحد.
ثانياً – المدى المتوسط (6-12 شهراً) الذي تعتمد أسعار النفط فيه على استراتيجية "أوبك+" وعلى حلّ الأزمات الجيوسياسية. وإذا نجح هذا الأمر، من المتوقّع أن تنخفض الأسعار إلى 55-70 دولاراً للبرميل.
ثالثاً – على المدى البعيد هناك توقعات بهبوط طويل الأجل لأسعار النفط ناتج عن استخدام مصادر الطاقة المتجددة. وفي حال عدم حدوث أية أزمات جيوسياسية، من المتوقّع أن تتراوح الأسعار بين 50 و60 دولاراً للبرميل خلال السنوات القادمة.
يُظهر الرسم البياني رقم 1 التوقعات للأسعار في ظل المراحل الثلاث حيث استخدمنا في هذه المُحاكاة تغيّرات ثابتة (Constant Volatility). وقد عمدنا إلى إستخدام نموذج إحصائي أكثر تطوراً (Stochastic Volatility + Geopolitical Shocks)، وأتت النتائج لتدعم النموذج الأول (أنظر إلى الرسم البياني رقم 2).
رسم بياني رقم 1: توقعات أسعار النفط الخام الأميركي على المدى القصير، المتوسط، والبعيد مع إعتماد تغيرات ثابتة (المصدر: حساباتنا).
رسم بياني رقم 2: توقعات أسعار النفط الخام الأميركي بإستخدام نموذج أكثر تطوراً - Stochastic Volatility + Geopolitical Shocks (المصدر: حساباتنا).
التداعيات على لبنان
لبنان (حتى الآن) من الدول المستوردة للنفط وأي ارتفاع في أسعاره سيترك تداعيات سلبية واسعة النطاق:
أولاً – زيادة التضخمّ: أي ارتفاع في أسعار النفط سيؤدّي إلى ارتفاع الأسعار من باب كلفة التصنيع والتعليب والشحن ويجرّ ارتفاع الأسعار في لبنان الذي يُعتبر سوقه احتكارياً بإمتياز ومُستورداً أكثر من 80% من استهلاكه. وهذا ما يضرب القدرة الشرائية للمواطن ويزيد الفقر.
ثانياً – الكهرباء: أي إرتفاع في أسعار النفط العالمية سيؤدّي إلى زيادة النفقات التشغيلية لمؤسسة كهرباء لبنان وهو ما يعني إمّا تراجع التغذية أو زيادة عجز الموازنة إذا ما دعمت الحكومة المؤسسة.
ثالثاً – ارتفاع عجز الميزان التجاري نتيجة ارتفاع الفاتورة الحرارية الأعلى في الاستيراد، وهو ما يستنزف العملات الصعبة.
رابعاً – تحويلات المغتربين من دول الخليج: ارتفاع أسعار النفط يؤدّي إلى ارتفاع تحويلات المُغتربين في هذه الدول. والعكس يصحّ أيضاً.
ضرورة الإصلاح
بالطبع لا يُمكن مُواجهة تداعيات ارتفاع أسعار النفط إلّا من خلال إصلاحات سياسية واقتصادية بدأت حكومة الرئيس نوّاف سلام بتطبيقها. المطبات أمام هذه الحكومة كثيرة وعمرها لا يتخطّى الأشهر (في حال لم يتمّ تأجيل الانتخابات النيابية)، فهل ستكون قادرة على إجراء الإصلاحات وجذب الاستثمارات الأجنبية خصوصاً الخليجية منها؟