في الطريق الطويل إلى فندق فينيسيا حيث يُعقد مؤتمر "الاقتصاد الاغترابي الرابع"، كانت الإذاعات اللبنانية تبث البيانات المحذّرة ممّا ينتظر لبنان بعد موافقة مجلس الوزراء، في ليلة المؤتمر، على ورقة توم برّاك. مع التقدم أكثر باتجاه العاصمة كانت أجواء الشوارع هادئة جداً، لا يعكّر صفوَها إلا اعمال "الترقيع" على اوتوستراد المطار، وزحمة سير التي ترافقها. هذا التناقض بين فضاءات الأجواء الإعلامية السلبية، وأرض الواقع المرتقبة، حسمته أجواء اللبنانيين المغتربين والأجانب المشاركين في المؤتمر، التي مالت لمصلحة التفاؤل.
التفاؤل سيد الموقف
"عندما أعلمني رؤوف أبو زكي ( رئيس مجموعة "الاقتصاد والأعمال"، المٌنظّمة للمؤتمر) بتاريخ عقد المؤتمر قبل شهرين، عارضته على التوقيت"، قال رئيس اتحاد رجال الأعمال للبحر المتوسط، و عميد الصناعيين السابق، جاك صرّاف. فالظروف السياسية، والاقتصادية والأمنية البالغة التعقيد التي يمر بها البلد، تفوّت عليه فرصة الاستفادة من فعالية دولية، تعتبر الأهم في وصل ما انقطع مع المغتربين، وتحفيزهم على العودة والاستثمار في لبنان و"دعوته إلى تأجيل عقد المؤتمر"، أضاف صراف. وإذ، ومن حيث لم يكن أحد يدري، "اتخذ مجلس الوزراء عشية المؤتمر قراراً بالغ الأهمية على صعيد إرساء الاستقرار، وتعزيز دور الدولة، وطمأنة المجتمع الدولي على سلوك مسار الإصلاح وتطبيق الاتفاقيات، فكان المؤتمر الرسالة الأولى التي يبعثها لبنان إلى المجتمعين العربي والدولي بأن مسار الإصلاحات بدأ فعلاً لا قولاً، داعياً إياهماً إلى العودة عن قرار مقاطعة لبنان ودعمه بالاستثمارات، لفتح صفحة جديدة من العلاقات المبنية على الندّية والتعاون لما فيه مصلحة الجميع".
الدور التشريعي كبير
المسار الإصلاحي الذي بدأه لبنان أخيراً، "يشكل البيئة الحاضنة لجذب رؤوس الأموال وتوظيفها في شتى ميادين الاقتصاد"، برأي النائب فراس حمدان. و"نحن ملزمون كمشرعين، باستكمال هذا المسار، ومرافقته بما يحتاجه من قوانين تحفيزية للمستثمرين. وإقرار بعض الاعفاءات الضريبية. وخلق بيئة تكنولوجية متطورة لمواكبة نشاط الشركات الناشئة الآخذة في النمو والازدهار، وتسريع البت بكل ما يتعلق بتطوير البنية التحتية. ليبقى الأهم "تأمين الاستقرار السياسي والأمني، بالتوازي مع إقرار وتنفيذ الإصلاحات على مختلف الاصعدة القضائي والمالي والجمركي والخدمات العامة". فأكثر ما يهم المستثمر هو النزاهة والعدالة في الأحكام وتسهيل الدخول الخروج إلى ومن السوق. وعدم تعرضه للابتزاز أو السرقة أو حجز أمواله".
المغترب مستثمر عقائدي
بغض النظر عن العناوين فإن الهدف الأول من المؤتمرات الاقتصادية يبقى جذب المستثمرين، وفتح المجالات أمام رجال الأعمال، وتعزيز العلاقات التجارية بين الداخل والخارج. لكنّ مؤتمر الاقتصاد الاغترابي يقدّم فارقين كبيرين، برأي رئيس الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم عباس فواز، وهما:
- توجه المؤتمر نحو المغترب اللبناني الذي هو "مستثمر عقائدي"، بمعنى أنه مُؤمن بلبنان ولم يتركه بأحلك الظروف. وذلك على الرغم من الإجحاف الذي لحق به في سنوات ما بعد الانهيار.
- اعتماد لبنان سياسة الباب المفتوح" (open door policy)، وهي من ركائز الاقتصاد الحر، وتشجيع المستثمرين على ضخ الأموال.
إلا أن الاهتمام الذي يبديه المغترب بوطنه الأم، هو "اليد الأولى"، التي تتطلب وجود "يد" الدولة القادرة لتتمكن من التصفيق. يشدد فواز.
أرقام الاستثمارات خجولة
يقف لبنان اليوم أمام فرصة جدية، إنما قد تكون أخيرة إن لم يحسن استغلالها، ولا سيما في ظل التسابق المحموم على جذب رؤوس الأموال والاستثمارات، سواء لإعادة الإعمار أو تنمية الاقتصاديات. و"بالنظر إلى أرقام الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مشاريع جديدة في لبنان نرى أن الأرقام خجولة"، يقول رئيس فريق الأبحاث الاقتصادية في "بنك بيبلوس" نسيب غبريل. خلال السنوات الأربعة الماضية لم يتخطّ مجموع الاستثمارات 30 مليون دولار. وقد بلغت الاستثمارات الاجنبية المباشرة في العام 2024 نحو 3 ملايين و400 ألف دولار فقط". وهذه الأرقام لا يمكن البناء عليها إطلاقاً. "وما لم يستعد لبنان ثقة المجتمعين المحلي والخارجي، ويؤمن بيئة تشريعية مؤاتية، ويحرص على توفير مناخ آمن ومستقر ملائم لبيئة الاعمال، فان الارقام لن ترتفع. فهناك تنافس حاد في المنطقة على استقطاب الأموال والإستثمارات، وعلى لبنان الإسراع في الإجراءات الإصلاحية كي لا يفوتنا القطار.
"الطريق صعب ولكن الإصلاح بدأ أكد رئيس الجمهورية خلال افتتاح المؤتمر. وقد "بات من الضروري إعادة ربط لبنان بدور إقليمي منتج، وأن يكون المغترب حاضراً في إعادة الإعمار والمشاريع الكبيرة في المنطقة". فهل يكون المؤتمر باكورة اطلاق عجلة الاستثمار من جديد، أم أن هناك معوقات ما زالت في الطريق والعبرة تكمن في التنفيذ؟ سؤال برسم المقبل من الأيام.