عكس "مؤشر مديري المشتريات – PMI"، الذي يصدره "بلوم بنك"، الحالة "السوداوية" الحقيقية للاقتصاد اللبناني. وذلك خلافاً للمشهدية "الوردية"، التي تُظهرها ارقام تدفق السياح والمغتربين، وزحمة الأسواق، وفورة المطاعم. وقد سجل المؤشر في "عز" موسم الاصطياف، تراجعاً إلى 48.9 نقطة. فماذا يعني هذا المؤشر؟ ولماذا هو مهم إلى هذه الدرجة؟

يعتبر "مؤشر مديري المشتريات"، واحداً من أهم المقاييس الاقتصادية التي تستخدم لقياس أداء قطاعات التصنيع والخدمات. وهو يقوم على تجميع "بلوم بنك" الإجابات على الاستبيانات التي يتم إرسالها شهرياً إلى المسؤولين التنفيذيين في أكثر من 400 شركة في القطاع الخاص. وتضم الاستبيانات أسئلة عن 5 أمور أساسية في الشركة، بوزن معين لكل واحدة منها، وهي: الطلبات الجديدة (30%)، وحجم الإنتاج (25%)، والتوظيف (20%)، ومواعيد تسليم الموردين (15%)، ومخزون السلع المشتراة (10%). ويُقاس المؤشر من 0 إلى 100. فإذا كان أقل من 50 نقطة، يكون هناك انكماشاً اقتصادياً. وأكثر من 50 نقطة يعني تحقيق الاقتصاد نمواً. أما الثبات عند رقم 50 فهو يعني أن النشاط الاقتصادي لم يتغير عن الشهر السابق.

الاقتصاد يفتقر إلى الحوافز

وكما يتبين فإن المؤشر في لبنان ظل سلبياً في شهر تموز المنصرم، لأن "الاقتصاد افتقر إلى أي وسائل فعالة لتحفيز نمو الطلب"، بحسب تعليق مدير الأبحاث الاقتصادية في بنك لبنان والمهجر للأعمال د. علي بلبل، على نتائج المؤشر. "فالحكومة اللبنانية لا تملك أي أموال لإنفاقها، والقطاع الخاص لا يملك القدرة أو حتى الرغبة في الإنفاق".

لماذا الإحجام عن الإنفاق؟

يعود الإحجام عن الإنفاق العام والخاص إلى مجموعة من العوامل المعقدة. فالدولة التي تملك في حسابها في مصرف لبنان مبلغاً يفوق 7.3 مليار دولار، تعتمد سياسة تقشفية، كيلا تزيد الضغط على الدولار، وتؤثر سلباً على سعر الصرف. أمّا القطاع الخاص فيظهر أنه متخوف من حالة اللايقين التي يمر بها لبنان والإقليم، على مختلف المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية. ويشكل الاستقرار، المترافق مع ضمور في الخدمات العامة، وارتفاع الكلف التشغيلية، وسوء البنية التحتية.. العدو الأول للاستثمار والمستثمرين. وهذه العوامل ما زالت تجتمع في لبنان، من دون وجود أي دليل أو مهلة زمنية لإمكانية تفكيكها وحل عقدها.

الإنفاق الخارجي غير كاف!

عليه، لم يبق سوى القطاع الخارجي لضخ الأموال بالاقتصاد، وهذا القطاع تأثر بدروه بـ"الموسم السياحي الضعيف، بحسب بلبل، ومما زاد من سوء الأداء تراجع الصادرات نتيجة انعدام الأمن". خصوصاً ان النشاط التجاري لشركات القطاع الخاص تأثر سلباً بالانخفاض السريع في طلبيات التصدير الجديدة، ما أدى إلى انخفاض إجمالي المبيعات ومستويات النشاط التجاري. وقلصت الشركات اللبنانية من كميات مشترياتها سعياً إلى تخفيض التكاليف بأعلى معدل منذ تشرين الثاني 2024. وتأثر النشاط التجاري سلباً، أيضاً، بانخفاض الأعمال الجديدة، ولاسيما من العملاء الدوليين، وانخفاض الطلبيات الجديدة الواردة منهم.

التضخم ينخفض شهريا ويرتفع على صعيد سنوي

الخبر الايجابي الوحيد انه في ظل تراجع الضغوط على التكاليف، رفعت الشركات أسعار سلعها وخدماتها بمعدل منخفض في تموز الماضي، وبالمثل، كان معدل تضخم أسعار السلع والخدمات الأدنى في ستة أشهر.

وعلى الرغم من هذا الواقع الانكماشي فقد أظهر مؤشر أسعار المستهلك الصادر عن "معهد الاستشارات والبحوث"، ارتفاعاً على أساس سنوي في شهر تموز بنسبة 7.8 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. ومما يتبين فإن جميع المؤشرات الرئيسية التسعة سجلت زيادات في شهر تموز من هذا العام. فسجلت فئة "التعليم" أعلى زيادة (30.5%)، تليها فئة "السلع والخدمات الأخرى" (28.1%)، ثم فئة "الملابس" (14.7%)، وفئة "الترفيه" (6.4%)، وفئة "الأطعمة والمشروبات" (4.5%). وكن من اللافت تسجيل فئة "الفواكه" أكبر زيادة في بند الطعام حيث ارتفعت الأسعار مقارنة بالعام الماضي بنسبة 53 في المئة. في حين شهدت أربع مجموعات غذائية أخرى انخفاضات، وهي مؤشرات فئة "الخضروات" (-27.3%)، وفئة "الدهون والزيوت" (-12.9%)، وفئة "السكر والحلويات" (-5.9%)، وفئة "البيض ومنتجات الألبان" (-3.8%).

التشاؤم من المستقبل

في جميع الحالات فإن الشركات اللبنانية متشائمة في توقعاتها بالنسبة للنشاط التجاري للخمسة أشهر المتبقية من العام الحالي. وهي تظهر قلقا عميقا من احتمال تصاعد الخلافات الأمنية والسياسية داخلياً، وامتداد الصراعات والتوترات الإقليمية على الوضع الداخلي. وتتزامن توقعاتها المتشائمة للأشهر المقبلة مع سلسلة من التطورات الدبلوماسية والتهديدات الأمنية عالية المخاطر، والتي تؤثر بشدة على ثقة المستثمرين والزخم الاقتصادي. ومن أبرزها إصدار قرار ملزم من مجلس الوزراء اللبناني بنزع سلاح حزب الله مع ما قد يرافق مثل هذا القرار من تفاقم الانقسامات السياسية الداخلية، مقابل وضع الحكومة تحت ضغوط دولية كبيرة، والتهديد بوقف كل أشكال المساعدات والدعم في حال الفشل في حصر السلاح بيد الدولة. ويرافق هذه المخاطر استمرار الغارات على جنوب لبنان والبقاع، والخوف من اتساع نطاق الصراع، وعرقلة العمليات التجارية واللوجستية بشكل مباشر. فضلاً عن تجدد موجة العنف في سوريا التي أضرت أكثر بمناخ الاستثمار.

في ظل هذا الواقع الملبد بالمشاكل على مختلف المستويات، ازداد عزوف القطاع الخاص عن المخاطرة، مما أدى إلى توقف النشاط التجاري وتفاقم نقاط الضعف الاقتصادية الكلية المستمرة في لبنان.